سياسة تقرير
حسب صندوق النقد الدولي، فإن العقارات تشكّل 90% من التسليفات المصرفية (مروان طحطح)
أخذت المادة 49 من قانون موازنة 2018 حيّزاً واسعاً من النقاش السياسي الانتخابي، رغم أن منشأها مالي ـــ عقاري يصبّ في صلب محاولة إنقاذ تجار العقارات الذين اقترضوا أموالاً من المصارف ولم يعودوا قادرين على سدادها في ظل الركود العقاري
مع قرب موعد الانتخابات النيابية، استعر الخطاب السياسي ـــ الطائفي، حاجباً أي نقاش آخر في مضمون المادة 49 من قانون موازنة 2018. بدلاً من أن تحتلّ دراسة الأثر الاقتصادي لهذا البند الأولوية على أي نقاش آخر، انجرّ كثيرون نحو خطاب التهويل الديموغرافي من مخاطر التوطين. خطاب جاذب بطبيعة الحال لأصوات الناخبين، إلا أنه مقلق ولا يعبّر عن الهدف الحقيقي من هذه المادة. فما هو الهدف؟
كان الهدف محصوراً بحماية تجار العقارات من مخاطر الركود المستمرّ منذ سنوات وتقليص مستوى انكشافهم على الديون المصرفية، من خلال سلّة تعديلات ضريبية، بينها منح الإقامة مقابل شراء شقّة في بيروت بقيمة مليون دولار أو شقة بقيمة 500 الف دولار خارج العاصمة. طرح كهذا مثير للجدل الاقتصادي وللأسئلة: من هو الجدير بالحصول على حماية على حساب المال العام، من تصيبه هذه الإجراءات، من يدفع كلفتها، أي قطاع ندعم في لبنان؟
عرّاب الفكرة هو أمين سرّ رئيس جمعية المطورين العقاريين مسعد فارس. «في البدء عرضتها على الجمعية قبل أن يبدأ التسويق لها على مستوى واسع»، يقول فارس لـ«الأخبار». فكرة فارس شملت، إلى جانب اقتراح منح الإقامة لمن يشترون الشقق في لبنان، مجموعة إجراءات «تحفيزية» هدفها مكافحة الركود في السوق العقارية، وبينها: خفض الضريبة على الأملاك المبنية لمن يشغل وحدتين سكنيتين بنسبة مئوية معينة، خفض رسم التسجيل العقاري، توحيد التخمين العقاري في الإدارات العامة، إعادة إطلاق القروض المدعومة للطبقة المتوسطة والمحدودة الدخل.
نال المشروع موافقة جمعية المطوّرين، ثم عُرض على رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير، فجال به على رئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة سعد الحريري ووزير المال علي حسن خليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وعدد من الوزراء والنواب… لم يعترض أحد على هذا البند بالتحديد، بل كانت هناك اعتراضات على بنود أخرى لم تُدرج في الموازنة.
الترويج لهذا البند لم يكن صعباً على فارس وشقير. «كنا نعلم أن الإقامة اللبنانية ليست مغرية كثيراً، لكن يمكن استعمالها في مجال نقل الإقامة الضريبية. على سبيل المثال، بإمكان أي أجنبي يعيش في لبنان لأكثر من 181 يوماً أن ينقل إقامته الضريبية إلى لبنان. عملية النقل هذه توفّر عليه الكثير، لأن الضرائب التي يسددها في لبنان هي أقل بكثير مما يجب عليه أن يسدّدها في حال كانت إقامته الضريبية في الخارج. هنا يكمن رهاننا في إقرار هذا البند، لأنه لا يتعلق حصراً بتحفيز مبيعات الشقق، بل قد يدرّ إيرادات ضريبية على الخزينة أيضاً» وفق مسعد.
ويشير شقير إلى أن حاكم مصرف لبنان وافق على إقرار هذا البند «لأنه يدرّ دولارات طازجة من الخارج يحتاج إليها الاقتصاد اللبناني». وينقل شقير عن رياض سلامة أن هذا البند «يصبّ في سياسة مصرف لبنان النقدية».
الأسباب الموجبة
أما الأسباب الموجبة التي رفعها شقير إلى مجلس الوزراء لإقناعه بتبنّي هذا البند وإقراره ضمن مشروع الموازنة، فهي تشمل ثلاثة مستويات: المستوى الوطني، والمستوى المالي والنقدي، والمستوى الاقتصادي. من جهة، هذا الاقتراح يشجّع المغتربين على شراء منزل في لبنان، ومن جهة ثانية، ستكون له مفاعيل نقديّة كبيرة تكمن في «زيادة التحويلات من الخارج، والمساهمة في تحسين ميزان المدفوعات، وضخ العملة الصعبة في السوق اللبنانية ودعم الليرة وزيادة السيولة في السوق». اقتصادياً، فإن الحوافز المذكورة تهدف إلى «الحد من تداعيات أزمة القطاع العقاري والقطاعات المرتبطة به، إيجاد مكلفين جدد يدفعون الرسوم البلدية وضريبة الأملاك المبنية على الشقق المباعة…».
مسعد فارس: أحد أهداف هذه المادة أن نغري الأجانب بنقل إقامتهم الضريبية إلى لبنان
محاججة الطرف الذي يدّعي أن هذا البند ينطوي على مخاطر من التوطين، تأخذ شقير وفارس في اتجاه آخر. ففي الدراسة التي أجريت قبل صياغة هذا البند وأي بند آخر من الحوافز الضريبية التي اقترحت على المسؤولين، تبيّن أن الموقع الالكتروني للأمن العام يحدّد شروط منح الإقامة الدائمة للأجنبي. ففي اعتباره أن هذا النوع من الإقامة يمتد «ثلاث سنوات»، وأحد شروط منحها هو إبراز «إقامة مصرفية أو دخل شهري». ومن بين المستندات المطلوبة: «إفادة مصرفية بمبلغ مجمّد منذ ثلاثة أشهر لدى مصرف لبناني لا يقلّ عن 300 مليون ليرة لبنانية أو ما يعادلها بالعملة الاجنبية، ونسخة عن دفتر توفير أو كشف حساب أو إفادة بدخل شهري ثابت لا يقل عن 5 ملايين ليرة لبنانية أو ما يعادلها بالعملة الاجنبية. سند إيجار أو سند تمليك. إفادة مصرفية لحساب مشترك مجمّد فوق 500 مليون ليرة لبنانية أو ما يعادلها بالعملة الاجنبية».
«بهذه الشروط يمكن الحصول على إقامة دائمة التي تعرّف على أنها ثلاث سنوات فقط، وهي تضاف إلى قانون منع تملك الفلسطينيين الذي أقرّ في 2002»، يقول شقير. أما تملّك السوريين في لبنان «فهو أمر قد حصل سابقاً مع بدء النزوح من سوريا إلى لبنان. من كانت لديه القدرة الشرائية من السوريين لتملك مسكن في لبنان فقد اشتراه بعد نزوحه مباشرة، وهناك بينهم من قرّر الانتقال إلى الأردن ودبي ومصر، أما (المعتّرين) الذي يعيشون في الخيم، فليس بإمكانهم شراء الشقق المذكورة في البند (مليون دولار في بيروت و500 ألف دولار خارج بيروت) ولا يجوز التذرّع بهم» وفق مسعد.
ويضيف مسعد: «هذا الاقتراح يحترم تملّك الأجانب». بمعنى آخر، إن قانون تملك الأجانب سيبقى ساري المفعول ومطبّقاً بصرف النظر عن الهدف من التملّك. وينصّ قانون التملّك على أن الأجنبي لا يمكنه تملك أي حق عيني عقاري في لبنان «إلا بعد الحصول على ترخيص يعطى بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المال»، وتشير المادة الثالثة إلى أنه يستثنى من الترخيص «تملك عقارات مبنية أو مخصصة للبناء لا تزيد مساحتها في جميع الاراضي اللبنانية على ثلاثة آلاف متر مربع»، كما تشير المادة السابعة إلى أنه «لا يجوز أن يتجاوز ما يمتلكه الاشخاص المعنويون غير اللبنانيين أو المعتبرون بحكم غير اللبنانيين، في جميع الاراضي اللبنانية 3% من مجموع مساحتها، على أن لا تتعدى 3% في كل قضاء من مجموع مساحته، ولا تتعدى في محافظة بيروت 10% من مجموع مساحتها».
تحفيز مبيعات العقار
إذاً، كل النقاش الدائر حول التهويل من التوطين لا محلّ له فعلياً في النقاش الحقيقي المتصل بالأثر الاقتصادي من هذا البند. فالاقتراح بصيغته الحالية يهدف بشكل مباشر إلى تحفيز مبيعات العقارات، أي إنه يهدف بشكل غير مباشر إلى حماية تجار العقارات من الورطة التي وقعوا فيها بسبب استدانتهم من المصارف لتشييد شقق فخمة وكبيرة، فيما السوق لم يعد قادراً على استيعاب هذه الفئة من المساكن المخصّصة للأثرياء وأصحاب المداخيل العالية. «كان المطورون يعتمدون على وجود أشهر جيدة وسنوات سيئة، إلا أنه منذ سنوات لم تكن هناك فترات زمنية جيدة تحقق أرباحاً تعزّز الصمود للأيام المقبلة» وفق فارس. هكذا تراكم مخزون العقارات المبنية غير المبيعة في السوق. التقديرات تشير إلى وجود أكثر من 120 ألف شقة «بينها 4 آلاف شقة تقع بين السمرلاند وكازينو لبنان. قيمة هذه الشقق تبلغ 5 مليارات دولار. هناك 5 مليارات دولار باطوناً نعمل على تسييلها»، على حدّ تعبير شقير.
يمكن قراءة كل هذه الوقائع بدقة أكثر، إذ إنها تدلّ على أن مصلحة الحفاظ على «النموذج اللبناني» القائم على جذب التدفقات الخارجية بالعملات الأجنبية، تقتضي الحفاظ على القطاع العقاري بوصفه أحد أبرز أدوات هذا النموذج. انخراط هذه الأداة في لعبة استقطاب الأموال كبير إلى درجة أن وقوعها سيكون له تأثير كبير على المصارف. وحسب صندوق النقد الدولي، فإن العقارات تشكّل 90% من التسليفات المصرفية بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يعني أن الهدف منع إفلاس تجار العقارات حتى لا يمتد أثر ذلك إلى المصارف. منع الانهيار يعني حماية «حراس الهيكل» من كبار المتموّلين وشركائهم السياسيين الذي أقرّوا في مجلس الوزراء وفي مجلس النواب المادة 49.
أما النقاش في «النموذج» واستمراريته، فهو أمر مختلف عن النقاش في التوطين ومخاطر تملك الأجانب في لبنان. فهؤلاء المعترضون على منح حافز «الإقامة» كان يجب أن يعترضوا على قانون تملك الأجانب الذي يشرّع بيع لبنان بسوق النخاسة للزبائن الخليجيين، ويفتح الباب أمام المضاربات العقارية التي رفعت أسعار الشقق إلى مستويات جنونية منعت الفقراء من تملك مساكن ودفعتهم إلى التذلل عند زعمائهم للحصول على قرض مدعوم. المضاربون من السياسيين هم أنفسهم منعوا إقرار سياسة إسكانية وسياسة نقل عام وسياسة صناعية تخلق فرص العمل… ما يجب انتقاده وإعادة دراسته هو «النموذج» لا نتائجه.