لكثيرين لا تعني المادة 49 من الدستور وحتى الدستور نفسه أيّ شيء، كما لا تعنيهم كلمة “نصاب”، أو يفهمون علاقة هذا النصاب بالأرقام والمشروعية والميثاقية، ولا تعنيهم القوانين والآليات. سُخف كل ما سبق بنظرهم، كما سُخِفت مفاهيم مثل “المقاومة” و”الممانعة” و”رفض التطبيع”، وبات أي حديث عن “تصحيح التمثيل” و”الرئيس القويّ في طائفته” يثير زوابع ضحك صاخب في الإستديوهات بإشارة من المخرجين طبعاً. كل ذلك في ظل جيل – لا علاقة له بعمر محدّد – يريد الحديث عن رئيس الجمهورية ومسؤولياته هنا وهناك من دون أن يقبل الاطّلاع من قريب أو بعيد على صلاحيات هذا الرئيس أو التوقف عندها، تماماً كما يريد الحديث عن الفساد والفاسدين من دون الاطّلاع من قريب أو بعيد على ملفات الفساد والقوانين ودور القضاء وغيره، تماماً كما يريد الحديث عن تفجير المرفأ والمسؤوليات عنه من دون تكبيد نفسه عناء قراءة تقرير قانونيّ جديّ واحد عن الموضوع، وهو يريد اليوم انتخاب رئيس من دون التوقف عند أي نقاش دستوري – أكاديمي – قانوني – سياسي – طائفيّ مملّ في نظره بشأن الدستور والمواد والنصاب وغيرها. وهنا يلعب رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل دوراً متقدماً (حتى على القوات اللبنانية) منذ 17 تشرين في التوفيق بين ما يطلبه السفير السعوديّ وما يطلبه الجمهور المنقاد بالكامل عن بعد عبر “ريموت كونترول” يتمثل بوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي أتت لتقول إن كل فيديو تتجاوز مدته عشرين ثانية هو مضيعة للوقت، وكل تحقيق أو تقرير أو فكرة يتجاوز حجمها 280 حرفاً تفقد جاذبيتها.
عشية تكليف رؤساء الحكومات المتعاقبين، كان رئيس الجمهورية يطرح في كل مرة شروطاً تسبق التكليف بشأن مهمة الرئيس العتيد وكيفية إنجازها، ليستنفر حزب الكتائب قبل أن يتبعه نواب المجتمع المدني وآخرون في الهجوم على الرئاسة الأولى، مطالبين بتحديد موعد سريع للاستشارات النيابية، رغم عدم وجود أي نص دستوري بهذا الشأن، بحجة أن الظروف الاقتصادية والسياسية لا تسمح بإضاعة أي وقت. لاحقاً، لا يكاد رئيس الجمهورية يكلف أحدهم تشكيل حكومة، حتى تختفي غيرة الكتائب (وآخرين طبعاً) على الوقت ولا تعود الظروف تستوجب أن يسرع الرئيس المكلف بالتشكيل. ومع ذلك، لا يراجع أحد نفسه ليقول إن مبدأ الشروط المسبقة قبل التكليف كانا محقاً إذاً وكان يمكن ليومين جديين بهذا الشأن أن يوفرا أعواماً من الفراغ، فيما يمضي حزب الكتائب قدماً في تسخيف كل النقاشات الأساسية، وللتركيز على “وجوب انتخاب رئيس للجمهورية” بوصفه هدفاً بحد ذاته، لا يوجد قبله أو بعده، كأنه حدث منفصل عن كل شيء آخر. وإذا كان الطفل في بديهيات غرائزه يتعلم أن يربط كل فعل يمكن أن يقدم عليه بالسؤال: من؟ ماذا؟ أين؟ كيف؟ ولماذا؟ فإن أطفال الكتائب والمجتمع المدني ومن خلفهم يريدون تعطيل هذه البديهيات الغرائزية لدى الرأي العام، بحيث لا يسأل أحد لماذا أو كيف يفترض اليوم انتخاب رئيس للجمهورية؛ حتى يقرر على هذا الأساس من يجب أن يكون المرشح للرئاسة وكيف ينتخب.
يستعجلون تحديد مهلة للاستحقاق الرئاسي لكنهم لا يسألون عن مهلة لتأليف الحكومة
مع العلم أن ما يفعله سامي الجميل على هذا الصعيد يمثل، خلافاً لما يعتقد كثيرون، استمرارية لمسار كتائبيّ – قواتيّ أوصل المسيحيين إلى ما وصلوا – سياسياً وإدارياً – إليه نتيجة تفكيرهم في مصلحتهم المباشرة على حساب مصلحة طائفتهم والمصلحة العامة، وانشغالهم بالنكايات التكتيكية الضيقة على التفكير الاستراتيجيّ الواسع، حتى بدا رئيس حركة أمل نبيه بري ولقاء وليد جنبلاط الديمقراطي أمس أحرص من حزب الكتائب على ما تبقّى للمسيحيين من ضمانات، في مفارقة رهيبة طبعاً. ففي وقت تقول حركة أمل والحزب الاشتراكي إن إسقاط شرط الثلثين عن جلسة انتخاب الرئيس يفسح المجال اليوم وغداً أمام أي ثنائية شيعية – درزية أو شيعية – سنية أو سنية – درزية لإيصال رئيس بمعزل عن رأي النواب المسيحيين، يقول سامي الجميل عن سابق تصور سعوديّ وتصميم: افعلوا ذلك! وإذا كان الرئيس نبيه بري قد استعاض عن النكات غير الموفقة في الجلسة السابقة، بتذكير موفق أمس لسامي الجميل بما سبق له هو نفسه أن قاله وبمواقف بكركي بهذا الشأن، طالباً منه أن يحضر موافقة والده معه على هذا الطرح، فإن إصرار الجميل يؤكد عدم الاكتراث بأي شيء وعدم وجود أي حياء حين يتعلق الأمر بالتوجيهات السعودية. علانية، يقول سامي الجميل: دعكم من الميثاقية، ودعكم من ثوابت بكركي التي يهرع إليها ويحتمي بعباءتها حين تقتضي مصلحته الشخصية ذلك، ودعكم من برنامج عمل الرئيس والمرحلة المقبلة، وانتخبوا رئيساً. وهو يحاكي بذلك أولئك “الكثيرين” السابق ذكرهم الذين يحل “الريموت كونترول” السابق ذكره محل العقل والمنطق في التحكم بانفعالاتهم ومواقفهم وتغريداتهم.
وهو ما يستوجب بطبيعة الحال نقل المعركة أو النقاش الحيوي في مجلس النواب من الوكيل المتمثل بالجميل إلى الأصيل المتمثل بالسعودية، حيث يمكن لما يطرحه الجميل أن يكون المقدمة الأنسب لفتح الباب أخيراً أمام الثغرات التي تعتري اتفاق الطائف: تحديد آلية واضحة لانتخاب الرئيس كما يريد ممثل السفير السعوديّ في مجلس النواب، يفترض أن تتزامن مع تحديد آلية واضحة مع مهل زمنية لدعوة رئيس الجمهورية النواب إلى الاستشارات الملزمة لتكليف شخصية ما بتشكيل الحكومة لمرة واحدة، تزامناً مع تحديد آلية واضحة مع مهل زمنية لتشكيل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء للحكومة أو اعتذار الرئيس المكلف، تزامناً أيضاً وأيضاً مع إقرار وتطبيق اللامركزية الإدارية. وعلى السفير السعودي أن يحدد في هذا السياق إذا كان يريد التمسك بالطائف كما هو، كما يقول في احتفالاته السياسية، أو يريد فتح الباب عبر سامي الجميل وأصدقائه لتصحيح الثغرات الواردة في هذا الاتفاق بما يسمح بانتظام عمل المؤسسات. هكذا فقطـ يمكن وضع حدّ لما يفعله الجميل ويحلم به.