معظم حكومات العالم يرغب في تحقيق نمو داخلي قوي. لكن الرياح تجري كما لا تشته السفن حتى في أهم دول العالم وأعرقها. أكثر ما يؤخر النمو هي العوائق السياسية التي تنعكس سلبا على كل المشاريع من أمنية وعسكرية الى اقتصادية واجتماعية. من الأمثال الكبيرة الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان الذي دام 20 سنة وكلف 837 مليار دولار في الانفاق الحربي وحوالي 3587 قتيل من الجيش الأميركي وحلفائه كما 66 ألف قتيل من الجيش الأفغاني. اضطرت أميركا للخروج وهذا لم يكن متوقعا نظرا لقوة أميركا وضعف القوات المعادية لها. ألم يكن من الأفضل للجميع لو انفقت الأموال على التنمية ووظفت الطاقات البشرية للبناء والنمو. ما زالت مراكز البحوث الأميركية تدرس أسباب الفشل في أفغانستان، لكن النتائج واضحة أي غياب الرؤية كما التسرع في التنفيذ بالاضافة الى التوقعات الخاطئة وضعف الاشراف على التنفيذ. كانت أهداف الولايات المتحدة أحيانا متناقضة، بينما أهداف القوى المحلية المواجهة واضحة مما جعل القتال صعبا ومكلفا. لا شك أن هذه الأموال كانت ستكون مجدية أكثر بكثير لو أنفقت مثلا على الداخل الأميركي حيث الحاجات ما زالت كبيرة.
هنالك أيضا تصرفات مدهشة في عنفها داخل مجتمعات متطورة تؤخر النمو والاستثمارات. ما جرى في الولايات المتحدة من اعتداء على الكونغرس بعد خسارة دونالد ترامب للانتخابات كان عنيفا ومدهشا في توقيته ومبرراته، فأصاب سمعة الولايات المتحدة الديموقراطية وانعكس سلبا على الاستثمارات. ما جرى في البرازيل كان مشابها بعد خسارة بولسونارو وفوز لولا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. انعكس ذلك سلبا على البرازيل التي ما زالت ديموقراطيتها ضعيفة مقارنة بأوروبا وأميركا الشمالية. عرقلة مسيرة النمو بسبب السياسة والعنف تكون دائما مكلفة. أما الاحتجاجات في فرنسا ضد قانون التقاعد وغيره من الأمور، فهي ربما تكون مبررة سياسيا واقتصاديا لكنها غير مبررة في عنفها وكأن المتظاهرين ليسوا فرنسيين ولا يهمهم مستقبل بلدهم ونموه. تصرفات تعرقل الاستقرار وتؤثر سلبا على النمو.
لا شك أن الحرب الروسية في أوكرانيا تضر بالنمو العالمي بصورة مباشرة وغير مباشرة. ما يحصل من دمار وانفاق عسكري كبير بالاضافة الى الخسائر البشرية محزن وكان من الممكن تجنبه في السياسة. في كل حال، تنفق مليارات الدولار على التسلح وهنالك خسائر كبيرة في النمو وبالتالي مهما كانت نتائج الحرب، ستكون خسارة للجميع. في غير المباشر ارتفاع أسعار السلع والطاقة نتيجة الحرب يضر بالاقتصاد العالمي وخاصة بالدول الفقيرة التي تحمل ديونا باهظة وتحتاج الى كل نقطة نمو. أما العقوبات على روسيا فتضر ليس فقط بها بل تعرقل التجارة العالمية وتوتر العلاقات الاقتصادية العالمية. تضررت العلاقات التجارية بين روسيا وأوروبا كثيرا بسبب اعتماد أوروبا التاريخي على الطاقة الآتية منها وضرورة التنويع السريع.
معظم العقوبات يؤثر على قطع الغيار التي سيصعب استبدالها عند الحاجة. روسيا التي تنعم بفائض في ميزان الحساب الجاري يمكنها أن تصمد فترة طويلة في وجه العقوبات بعدما بدلت علاقاتها التجارية حماية لاقتصادها. نتج عن الحرب أيضا تراجع العلاقات بين الغرب والصين بعد تقييد محتوى التجارة معها لأن الغرب قلق كثيرا من تقدمها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي.
من القطاعات التي تتأثر كثيرا بالأوضاع الدولية والتي لا نعالجها كما يجب كاقتصاديين هو قطاع الفنون. الفن ليس هواية فقط، بل أيضا قطاع عمل وانتاج وابداع. لذا العلاقة بين الثقافة والأوضاع الاقتصادية مهمة جدا بالاتجاهين. للأسف مؤخرا أثرت الأوضاع الاقتصادية كثيرا على الثقافة والفن. دخول المال الى الفنون جعلها تتغير كما حصل مع جميع القطاعات الأخرى. الكمية أصبحت أحيانا أهم من النوعية. تأثير المال على الطلب أي على الأذواق أصبح واضحا ومضرا اذ اعتدنا على الثقافة والفنون كابداع فكري من ناحية العرض والطلب يتأقلم لاحقا. هل ينتج الفنانون اليوم ما هو مطلوب اقتصاديا وماليا واستثماريا، وبالتالي يتضرر الابداع والخلق والتفوق؟ لا ننكر حاجة الفنان الى العيش الكريم، لكن تضرر الفن من الاقتصاد مؤلم للمجتمعات الحالية وللمستقبل. ما يحصل اليوم هو تقارب بين المال والفن.
تاريخيا كان الفنان والفن يقفون في وجه المال، لكن الواقع تغير. هنالك حسنات لهذا التغيير اذ يجذب الفن اليوم طاقات كانت تذهب الى قطاعات أخرى بسبب العائد المالي. اما الخوف، فيكمن في أن المال يؤثر سلبا على النوعية وبالتالي يزداد الانتاج الكمي على حسابها. أكبر تحدي أمام الفنون حاليا هو الذكاء الاصطناعي الذي يستطيع انتاج تحف فنية بكبسة زر، مما يعني أن العرض سيزداد وبالتالي تنخفض الأسعار كما ايرادات الفنانين. بعض الفنانين ينظرون الى الذكاء الاصطناعي ككارثة تصيب المهنة، والبعض الآخر يقول أنه يوسع الخلق والابداع وبالتالي هو عامل ايجابي على صعيدي العرض والطلب.
لا شك أن الذكاء الاصطناعي سيغير طريقة انتاج الفنون وسيؤثر على الأذواق ومن الممكن أن يجذب مهتمين أكثر ربما على حساب النوعية. تأثير الذكاء الاصطناعي كبير ليس فقط على الفنون وانما على حياة الناس في وقت ينبه الخبراء الكبار الى ضرورة رقابة تطوره حتى لا يكون التأثير السلبي كبيرا على المواطنين والصغار خاصة. أحد أهم مؤسسي الذكاء الاصطناعي ولغته ChatGPT، هو «جيفري هينتون»، ترك شركة غوغل ويتكلم بحرية عن مخاطر الذكاء للبشر. يمكن له أن يأخذ مكان الانسان في أمور عدة عبر الاجابة على أسئلة معقدة، كتابة الشعر، الترجمة، المساعدة في العمل وتنظيم العطل وغيرها. طبعا يجب التدقيق دائما في كل المعلومات التي يعطيها منعا للاساءة الى المستعملين. يمكن للتقدم التكنولوجي المدهش أن يضر بالانسان الذي أوجده وهذا في غاية الخطورة والأهمية.