ماذا يعني النمو؟ في العادة، مقياس النمو هو ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي فصليا أو سنويا. هنالك العديد من الاقتصاديين الذين لا يكتفون بهذا التعريف الذي يتجاهل التحسن النوعي في الحياة بدأ من البيئة الى السعادة واحترام حقوق الانسان وغيرها. لذا تختلف أيضا مصادر النمو من كمي الى نوعي وبالتالي تحفيزه هو في غاية الدقة والصعوبة. في الماضي كان النمو ينبع من العوامل المادية الأربعة أي العمل، رأس المال، الطاقة والمواد الأولية.
كان هنالك اهمال واضح للتأثير التكنولوجي بسبب عدم القدرة على تقييمه. الاقتصادي «روبرت سولو» قيم نسبة النمو وقارنها بمجموع مساهمة كل من العوامل الأربعة. تبين له وجود فارق بينهما وصفه ب»الجهل» وأعاده الى التقدم التكنولوجي الذي لم يكن ممكنا قياسه. اليوم، أصبح هذا العامل التكنولوجي أهم وأكبر بكثير ويؤثر على كل العوامل الأخرى، وبالتالي لا نمو قوي ونوعي مستمر من دون تطور تكنولوجي واضح أهمه حديثا «الذكاء الاصطناعي».
مع تتابع الاكتشافات التكنولوجية منذ قرون وانتشارها على كل بقاع الأرض، يبقى الفارق كبيرا وجامدا مثلا بين الدخل الوسيط Medianالأميركي ومعدل الدخل الوسيط لمجموعة الدول النامية. كيف يحصل ذلك عندما ينحدر الفارق بين مستويات التعليم والصحة والتنظيم المدني ودور المرأة وغيرها؟ لماذا لم تلغ هذه العوامل الفارق في الدخل الوسيط؟ لماذا لم يتحول التحسن في المؤشرات الاجتماعية تحسنا في الانتاج المادي؟
هنالك تقصير في مجموعة الدول النامية في حسن تحويل التقدم الاجتماعي الى ازدهار مادي بسبب عوائق جدية قانونية مؤسساتية وثقافية. أكبر عائق أمام التطور يبقى الفساد الذي ينتشر في الدول النامية أكثر بكثير مما يحصل في الدول الصناعية. أما اليوم فالفجوة التكنولوجية تكبر مما ينعكس فارقا أعظم في انتاجية عوامل الانتاج المادية. ضمن مجموعة الدول النامية هنالك طبعا دول نجحت أكثر بكثير من غيرها، فيظهر ذلك جليا في صادراتها التي نمت بنسب أسرع من نمو ناتجها. نوعت تلك الدول صادراتها فتوجهت نحو السلع ذات القيمة المضافة الكبيرة التي تباع دوليا بأسعار أعلى مما يعزز الاحتياطي النقدي للاقتصاد.
يقول الاقتصادي «بول كروغمان» أنه سيكون للذكاء الاصطناعي تأثير كبير على الاقتصاد والانتاجية لكن تدريجيا، قطاعيا ومع الوقت. يذكر كروغمان بما حدث مع الانترنت حيث لم ترتفع الانتاجية بسرعة لسببين، أولهما وجود عوامل سلبية قوية خففت التأثيرات الايجابية منها القوانين والمؤسسات والقرارات العامة الخاطئة والمسؤولين الذين لا يتمتعون بالكفاءة المطلوبة. ثانيا، لم تستطع الاحصائيات تقييم الانعكاسات الايجابية النوعية للأنترنت وبالتالي لا نعرف بعد التأثير الحقيقي لهذا الاكتشاف الكبير على الاقتصاد بشكل عام. في كل حال لم يكن تأثير الانترنت بحجم ما حصل مع الاكتشافات السابقة من آليات ومولدات بخارية وماكينات وغيرها. لم يشعر الانسان بقوة الأنترنت الكبيرة لأن معظم ما يستهلكه اليوم يبقى السلع المادية التي لم تتأثر كثيرا ومباشرة بها. هل تكون مسيرة الذكاء الاصطناعي وما يترافق معه من تحسن للآليات واللغات والعلوم كما الأداب بطيئة وصعبة أو العكس؟
هنالك تاريخيا اكتشافات تكنولوجية عديدة، منها ما أثر سريعا وآخرى كانت تأثيراتها محصورة أو ضعيفة. في سنة 1957، توقع الاقتصادي «هربرت سايمن» أن يستطيع الحاسوب الفوز على الانسان في «الشطرنج» خلال 10 سنوات. حصل ذلك، لكن بعد 40 سنة. يستطيع الحاسوب اليوم طبع الرسائل بسرعة أكبر مما يستطيعه الانسان كما يستطيع التعرف على الأصوات والصور ويضع الحلول لمشاكل عدة متنوعة. لا شك أن المستقبل هو للذكاء الاصطناعي ولغاته أهمها اليوم ChatGPT التي تسمح بتبادل البحوث والأفكار. يمكنها الاجابة على أسئلة دقيقة ومساعدة الانسان في العديد من المهمات ككتابة البريد والرسائل وغيرها. سيكون لها دور كبير في معالجة مشاكل التنمية بالتعاون مع الانسان طبعا. استعمال هذه اللغة بذكاء سيؤدي الى رفع مستوى الانتاجية كما الى تنويع الانتاج وانجاح الصادرات ومعالجة تعقيداتها. ستسبب اللغة ثورة كبيرة في الاقتصاد نجهل حتى اليوم توقيتها ومواقعها الجغرافية والقطاعية. يقول الاقتصاديون أن أهم شرط للتوقعات «الناجحة» هو ابقاء التوقيت أو الموقع غامضين.
أهم الاكتشافات التكنولوجية هي التي تستعمل في ميادين عدة وليس محصورة في قطاعات أو حاجات محددة، منها المولدات والآليات والكهرباء والمحركات. سيكون لماكينات الذكاء الاصطناعي دورا كبيرا في الحياة والاقتصاد تحديدا، اذ يمكنها أن تتعلم وتتطور وتؤدي مهمات بسرعة ونوعية وربما تكون منتجة أكثر من الانسان الذي خلقها. على كل شركة أن تستفيد الى أقصى الحدود من الذكاء الاصطناعي، لذا من الضروري أن تكون ادارة الشركات خاصة المتوسطة والكبيرة منفتحة وبمستوى المهمات والتحديات. ستتحقق تغييرات كبيرة في عمل الشركات نتيجة التقدم التكنولوجي كما ستكون هنالك أجيال جديدة مختلفة من القيادات في قطاع الأعمال.
يبنى النمو الاقتصادي على النمو الانساني أي على تراكم رأس المال الانساني عبر التعليم والصحة والغذاء. اذا لم تتوافر القدرات المالية الكافية لتحقيق التنمية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعوض عنها ويسبب التنمية الضرورية للمستقبل. تكلفته أقل ويمكن تعلم ميزاته بسرعة كما ادخاله في كافة أقسام وفروع الشركات والمؤسسات. في منطقتنا العربية، ما زلنا نحاول أولا استعمال ذكاءنا الطبيعي لتطوير اقتصاداتنا وتعميم التنمية. لكن لا أحد يستطيع الوقوف في وجه ادخال الذكاء الاصطناعي بكافة أنواعه الى مختلف زوايا المجتمعات. انجاح هذا الذكاء يتطلب قدرة في الاستيعاب ورغبة في الاستفادة منه لتطوير التنمية. هنالك ضرورة لأن يحدد كل مجتمع ضوابط لاستعمال الذكاء الاصطناعي للكبار والصغار ضمن الواقع الثقافي واحترام التاريخ والعادات. في كل دولة، المطلوب أخيرا تطوير القوانين والمؤسسات لتسهيل اعتماد الذكاء الاصطناعي في القطاعين العام والخاص.