اليوم ذكراه، ذكرى غيابه الثالثة، ذكرى حضوره الدائم. فغسان تويني من الذين لا يموتون، انه في قلب الكلمة، تلك التي تدوم، لأنها تتعدى الحروف الكلاسيكية والارقام والحسابات الزائلة، لتدخل في عمق المعاني، في الفكر، والرسالة الهادفة الى خير مجتمع وأمة ووطن.
لن أعود الى غسان تويني الانسان، والجد، والوالد في غياب جبران، فهذا شأن خاص لا ضرورة لتكراره، واستجرار العاطفة، لكني أعود، في كل مرة، الى غسان تويني الصحافي، والمفكر، والسياسي، والديبلوماسي، والخطيب، والمحاور، والأهم اللبناني الوطني في الصميم، لأغتني منه.
ولعل عودة الى ما كتبه وما قاله على المنابر الأممية مفيدة، بل ضرورية، لقراءة جديدة في السياسات، وفي المتغيّرات، بل بالأحرى للتأكد من أن التاريخ يعيد نفسه، ولو كان التاريخ القريب جداً، إذ ان ما أعلنه غسان تويني العام 1981 أمام الدورة الـ 36 للجمعية العمومية للأمم المتحدة يصلح للبنان اليوم، كأن الاعوام الـ 35 كلمح بصر، بل ان قراءته اليوم تؤكد ما كتبه بنفسه “كأنما الموت ليس حقيقة بل سراب” في معرض إشارته الى شعب لبنان الذي يرفض الموت.
لذا أقرأ معكم من غسان تويني تاركة العبرة لمن يعتبر:
“إن فسح المجال لاستمرار الصراعات الدولية والإقليمية داخل لبنان حوّله، بل يحوّله أكثر فأكثر، مجموعة قنابل تفجر مجتمعات المنطقة ودولها، يأساً من هنا وثورة من هناك، وحروباً أهلية من هنالك. ومن خلال خراب لبنان، والطمع بأشلائه، وبملء الفراغ الذي يتركه غياب دوره، لم يتشرذم اللبنانيون وحدهم بل هي المنطقة كلها فقدت توازنها، فمضت عواصمها تردد، الواحدة بعد الأخرى، انها لا تريد ان تصبح لبنان آخر… وبات من حق لبنان الأصيل أن يتساءل بدوره: هل يقدر العرب بعد، ان يربحوا أنفسهم، اذا هم خسروا لبنان؟
أيها السادة، إن لبنان الحوار، المطل دوماً من خلف الركام والأطلال، عندما يراهن على وحدته الوطنية، فانما يراهن كذلك على انتسابه العربي ورسالته الحضارية في محيطه وفي العالم. لقد أثبتت الاختبارات التي مر بها لبنان ان ما يفرق بين اللبنانيين أقل أهمية بكثير مما يجمع بينهم، وان ما يميزهم، كمجموعة حتى عن أقرب الأقربين، لهو أعمق مما يميز واحدهم عن الآخر داخل المتحد الوطني .
والخلافات التي تضيق شقتها على الارض كل يوم قابلة كلها للاستيعاب في إطار المؤسسات الديموقراطية التي تغلبت، وإن جريحة، على استرهان سنوات، فلم يفلح العنف في خنق الحريات، وبرزت شراسة اللبنانيين في التعلق بأرضهم والدفاع عنها مثالاً يحتذى، إذ قل ان تمكن بلد صغير من ان يجتاز كل الذي اجتزناه، ويظل واحداً وسيداً متمسكاً بالحياة، قادراً عليها، كلما تهدم له بيت أقام بديله في أرضه، وكلما أغلق أمامه باب رزق فتح بديله أبواباً، وكلما انقشعت غيوم حرب وهدأت أصوات قنابل اندفع الى الحياة بشهية وايمان، كأنما الموت ليس حقيقة بل سراب.
ولبنان، الذي بات يؤمن بأن قوته ليست في ضعفه، بل هي في طاقته على الدفاع عن أرضه وحقوقه، يعتبر أن عليه الآن إتمام تهيئة الجيش، بمساعدة الاشقاء قبل الأصدقاء، حتى يتمكن وحده، تدريجاً، من القيام بأعبائه الأمنية والدفاعية كاملة غير منقوصة، ويشارك في المسؤوليات الاستراتيجية العربية مشاركة كاملة غير منقوصة كذلك. وإذذاك فقط يصبح لبنان الأمين ضماناً حقيقياً لأمن الأقربين، بدل أن يكون مصدر خوف على أمنه وأمنهم في آن واحد، أو يعود يوماً، يستعير أمنه من أمن الغير، ولا جدوى”.