IMLebanon

كما لو أنّ البلد يفشل في انتخاب امبراطور لا رئيس

استمرّ نظام الجمهورية الأولى اثنين وثلاثين عاماً ما بين التاريخ الرسمي للاستقلال عن الانتداب الفرنسي وبين التاريخ المعتمد لانتهاء الحرب الأهلية. هذا على الرغم من أنّ التحقيب الذي يجعلها جمهورية أولى، لا يفرق بين ما قبل الاستقلال عن فرنسا وبعده، ولا بين مرحلة السلم الأهلي وبعدها، فالجمهورية الثانية لم تعلن إلا بعد انتهاء الحرب، وادخال التعديلات المنصوص عنها في وثيقة اتفاق الطائف الى متن الدستور. 

بالتوازي، تشرف الجمهورية الثانية على ربع قرن من تاريخها، عاشت أكثرها تحت وطأة الوصاية العسكرية والأمنية السورية، لكن الوقت الذي قضته خارج عسكر الوصاية هو عقد كامل، نطفئ شمعته بعد شهور. 

في هذا الربع قرن، ازدهرت كثيراً فكرة أن السلم الأهلي البارد، المتوتر، السريع الاشتعال، الاشتباكي، الذي تغزو فيه مناطق أخرى، وطوائف أخرى، ويتعمّق فيه الانشطار الأهلي على خلفية المسائل السيادية، جنوباً وشرقاً وشمالاً، ليس بسلم أهلي حقيقي، لكنه استمرار للحرب الأهلية بطرق أخرى. وهنا النقطة، ذلك ان استمرار الحرب الأهلية بطرق أخرى لا يعني استمرارها كحرب أهلية.

التوقّعات السريعة عند كل منعطف، حول اقبال البلد على موجة احتراب أهلي تطول لأشهر مثلاً، ازدهرت كثيراً في هذا الربع قرن، ولم يأت ما يصادق عليها على أرض الواقع، باستثناء تاريخ الاشتباك بين جبل محسن وباب التبانة. أما الأيّام الأمنية الأخرى فكانت أيّاماً، تماماً كالمواقعات والمعارك في الجاهلية. 

انتظارات الحرب الأهلية لم تحدث. الوصاية السورية أقامت سرديتها على أن الجيش السوري إذا انسحب فالحرب الأهلية ستأكل الأخضر واليابس. لم يؤد جلاء الوصاية الى تمتين السلم الأهلي، بل انشطر الناس، حول الموقف والموقع بازاء المشروع الهيمني للفريق الأكثر تعبئة وأدلجة وتسلّحاً، ثم انشطروا على خلفية الثورة والحرب والتدخل في سوريا، لكن بالنتيجة لم يقع الانفجار الكارثي الذي تراكمت ادبيات انتظاره سنة بعد سنة من وقت انتهاء «الحرب الاهلية اللبنانية الكبرى»، أو «جامعة الحروب»، الى اليوم. 

أكثر من ذلك: غرق المشرق في حربين أهليتين عراقية وسورية، ولم يكن لبنان بمثابة واحة طمأنينة ووداعة وسلام بإزائهما، لكن هذا الحريق لم يتمدّد اليه بشكل مصمّم، وتفجيريّ، وإن كان التحدي المتمثّل بخطف العسكريين وابتزاز الدولة والبلد ككل، على جانب كبير من الخطورة.

وكما التوقّعات الخائبة بلحظة العودة الى «الزمن الحربي»، كانت التوقّعات المبالغة في التفاؤل بإمكان تجاوز «الجمهورية الثانية» الى «جمهورية ثالثة»، كلّ يقيسها بمسطرته، وكلماته ومصالحه. لكن الجمهورية الثانية، بالنتيجة، عمّرت. اتخذ نظامها السياسي أشكالاً عدّة، فليس كل تاريخها «ترويكا»، وليست كل انتخابات حصلت منذ التسعينات الى اليوم كسواها، وليست كل خضّة أمنية وتأثيرها على مجرى النظام السياسي وتوازناته مثل سواها.

صحيح أنّ «صلح الدوحة» يؤرّخ أيضاً قبله وبعده، لأنّه يتضمّن مناحي تجاوزية لاتفاق الطائف. لكن المستفيدين من ذلك عادوا ونقضوا الصلح نفسه عندما وجدوا ذلك مناسباً لهم في السياسة الآنية. بالنتيجة، الحرب الأهلية الثانية لم تحدث، والجمهورية الثانية عمّرت. في الوقت نفسه، ازدهرت «عادة» عدم احترام المهل الدستوريّة، عادة الخربطة في المواقيت، وصولاً الى الأزمة الكبرى، لكن الجافة، التي نعيشها اليوم، مع استفحال الشغور الرئاسي كل هذا الاستفحال. وطبعاً، يؤسس هذا الاستفحال في الشغور لعودة التشاؤمية المفرطة من ناحية، بأن الأمور ذاهبة عاجلاً أم آجلاً الى الانسداد التفجيري، والتفاؤلية المفرطة من ناحية أخرى، بأنّها لحظة تحوّل الى نظام ديموقراطي جديد ولو بعد حين. 

تجربة الربع قرن من استمرار الجمهورية الثانية رغم كل ما تخلّلها، وعدم العودة الى الحرب، رغم كل نوستالجيا حربية وجرعات تذكيرية وحروب مجاورة، انما تدفع لشيء من الاحتراس هنا. وبعض الاحتراس المفيد يتأمّن بالعودة الى صلب الموضوع: البلد معلّقة أحواله منذ أشهر مديدة بلا رئيس كما لو أنّنا نبحث عن منقذ للجمهورية والحضارة ولا نلقاه، في حين أنّ أحكام الدستور واضحة ليس فقط من حيث آلية الانتخاب، بل قبل كل شيء، من حيث صلاحيات القائم بهذا المنصب، والحاجة اذاً الى رئيس يشغل السدّة للسنوات الست المناطة به دستورياً، ويمارس صلاحياته وفقاً للدستور والأعراف.

متى أعيد التركيز على هذه البداهة، صارت العلّة التي تؤجّل الاستحقاق الرئاسي لاغية. فالشغور المستفحل يوحي كما لو أن البلد يبحث ويفشل في انتخاب امبراطور روماني بدلاً من انتخاب رئيس دستوري، فيما المطلوب انتخاب رئيس، ورئيس لست سنوات ناسوتية لا يعقل تعطيل انتخابه لمئتي يوم والحبل على الجرار.