Site icon IMLebanon

كما في الأهزوجة الشعبية: يا طالعة… يا نازلة

 

يا طالعة… يا نازلة، أهزوجة ردّدها أطفالنا ووصلت إلى أسماعنا منذ أواسط القرن الفائت وربما قبله، بل هي لعبةٌ طفولية بريئة تطلع بالطفل قليلا ثم تعيده إلى الأرض، سعيدا بالطلعة والنزلة، ومغردا باللحن والضحكة والمرح والحبور.

ولغة هذه الأيام على الصعيد السياسي، أيتها الحكومة الطالعة والنازلة، تلعب باللبنانيين جميعا، طلوعا ونزولا، أولئك المواطنين المغلوبين على أمرهم وعلى حياتهم وعلى صحتهم، الغائصين حتى انقطاع الأنفاس في ظلمة الكهرباء المقطوعة والمياه الملوثة والبيئة المسرطنة. يا طالعة يا نازلة، وإليكم ترجمتها السياسية العملانية في لغة هذه الأيام العصيبة:

كما صحونا على عبارات تبشر بقرب تشكيل الحكومة خلال أيام معدودات، لنكتشف أن التفاؤل الذي خدّرونا به هو في واقع الأمر، سراب مصطنع، ليتطور اكتشافنا إلى «مائة قلبة ولا غلبة» ولنجد أنفسنا أمام صراعات مختلفة الألوان والأشكال والأحجام، ولتكون لدينا مع الوقت، قناعات بأن ما نشهده هو عمليات ضحك على ذقون الناس وعلى مدى إدراكهم، ومناتشة مستدامة على الأموال العامة السائبة ونهب مستفحل لخيرات البلاد، وذبح مستمر للناس بحياتهم السليمة القويمة، وصراع لا يستكين على السلطة والرئاسات والوزارات، وقبلها، على المواقع النيابية والإدارية، ودائما وأبدا، هي جولات وصولات «مصارعة حرّة» دون قواعد منظمة ودون حدود رادعة، ومنازلات لا تستكين على المراكز الزعاماتية المتحكّمة، توطئة لإيصالها إلى مواقع الحكم والتحكم.

سماحة السيد حسن نصرالله، وبعد مرحلة هدوء وتهدئة أطلقها بين الناس وفي أوساط المتصارعين والمناتشين وفسّرت في حينه بأنها مصلحةٌ للحزب المنخرط في حربه الضروس في سوريا، طلبا لفترة من الهدوء وضبط الأوضاع المحلية لعزلها قدر الإمكان عن أية ارتدادات لها إلى الداخل تسيء إلى الواقع المتميز لحزبه، ولشعوره «الخاطيء ربما» بأن الأمور التي طبختها أحداث المنطقة تتطور لمصلحته، وبعد أن تعذّرت واشتدّت مراحل التفاؤل في كثير من الأوساط، وبما يشبه سحر الساحر، وزالت العقد، وتحلل كثير من اشكالياتها (أو هكذا شُبّه للرأي العام) وبعد أن أعلن الرئيس المكلف عقب لقاء له مع فخامة الرئيس عون، اتسم بالإيجابيات الحاسمة، وأن التشكيلة الحكومية ستبصر النور بعد ما يناهز العشرة ايام، وبعد أن تضاعفت زيارات المسؤولين والمهتمين بشؤون التأليف إلى بيت الوسط وكثرت من خلالهم التصاريح المبشّرة بقرب التأليف، وبعد أن حُلّت العقدة المسيحية بالتوافق ما بين الرئيسين على إسناد وزارة العدل إلى القوات اللبنانية وأصبح ذلك من المسلّمات التي بنيت عليها الآمال ومشاريع الحلول، وبعد أن كاد «الفول أن يصبح بالمكيول»، بمقاييس الرئيس برّي، جاء «زائر الصبَاح» الوزير باسيل في اليوم التالي إلى بيت الوسط ليعلم الرئيس المكلف بأن وزارة العدل ينبغي أن تكون من حصة رئيس الجمهورية «بعد أن كان التوافق عليها قد تم ما بين الرئيسين»، مضيفا إليها مطلبا أعيد أحياؤه بعد أن خبت معالمه لأسابيع خلت، يذهب إلى وجوب إشراك ممثل عن ستة نواب سنة، موزعين أساسا في انتماءاتهم السياسية إلى كتل مختلفة تصب جميعا في صلب النهج السوري وفي إطارات الثامن من آذار، الأمر الذي آزره مطلب بهذا الخصوص لسماحة السيد متجاوزا في ذلك أن هذا الوضع يتعلق اتخاذ القرار به بالرئيس المكلف، وقد طالب سماحته الجميع بالهدوء والإقلاع عن بناء الآمال والتفاؤل المبالغ به بقرب تأليف الحكومة العتيدة، وسماحته لم يكن من هذا المنطلق عالما بما لم يعلم به الآخرون فقط، بل أدّى كل ذلك إلى فرملة عملية التأليف والدفع بها إلى الخلف وإلى الخلفيات المحلية والإقليمية، وإلى أحداث طارئة حلّت على المنطقة بآثارها التي دفعت بانعطافة ما للتصرفات المنطلقة من منطويات ومكامن فريق الثامن من آذار، ومن استعادة لأسلوب الاستقواء والترقب لحصيلة أوضاع المنطقة بعد سلسلة من الأحداث المعبرة التي طاولتها، وآخرها أزمة القنصلية السعودية في اسطنبول، مرورا بالمواقف الأميركية من إيران ووصولا إلى تصنيف حزب الله في اطار إرهابي عابر للحدود، الأمر الذي يتوقع الجميع ارتداداته المؤذية التي لا بد أن يطاول الساحة اللبنانية جزء منها.

هي إذن محاولة ما… فرصة ما، لقلب الطاولات، بدءا بطاولة التأليف الحكومي، ولمحاولة أكثر حنكة وصلابة وتحايلا، لتطويع النهج الذي يسلكه الرئيس المكلف بالتوافق والتكامل مع القوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي، حتى إذا لم يكن هذا التطويع، نتيجة لصمود الرئيس المكلف والمتآلفين معه، فستكون هناك محاولة ما، فرصة ما، لقلب المقاييس بدءا بالوصول إلى محاولة فرض معايير وأعراف وتصرفات جديدة، تحطم التوافقات الحاصلة وتؤدي إلى استبدال حكومة الوحدة الوطنية بحكومة اللون الواحد والاتجاه الواحد، وبالتالي الإمساك بمقاليد ومفاتيح الحكم جميعا وبصورة شبه أوحدية فارضة، وذلك استكمالا لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي فُصّلت على مقياس لم يكن في مصلحة الكثيرين، وهي حاليا موضع تساؤل وندم.

وبعد: لن نستغرب إطلاقا أن تطرأ أي تعديلات وتغيّرات في المواقف المتعلقة بالتأليف الحكومي، بما فيه أن يطرأ تعديل في الوقت الذي يُرسَل فيه هذا المقال إلى الطبع والنشر، فتختلط الحسابات والتوقعات وتتناقض وتتناهض مجددا، وكما قلنا في البدء، الأوضاع الحكومية وبالتالي الأوضاع العامة: يا طالعة يا نازلة، ولئن كانت الأهزوجة الشعبية هذه تتم من منطلق براءة طفولية خالية من خبائث الآراء والمواقف، فإن أوضاعنا السياسية القائمة، حافلة مع الأسف، بكل أنواع الخفايا والخبايا والنوايا المبيتة والمبرمجة، والتي غالبا ما تصبّ لدينا بعد مرورها بمسالك عدّة، لعل من أخطرها تلك القادمة من خلف الحدود البعيدة، ومن توجهات مناقضة للمصالح اللبنانية ومناهضة للكيانات العربية، ومن المطامح الامبراطورية والمذهبية قريبة وبعيدة المدى التي تنطلق من حيث يعلم الجميع لتصل إلى شواطئ المتوسط.

المحامي محمد أمين الداعوق