IMLebanon

كما يليق بالعظماء

 

لا ينبغي لأحد، أن يدخل في سجال حول الأموات، لا سيما الشهداء منهم..

 

فالموتى، لهم قبورهم والذكريات في أعماق محبيهم، والشهداء لهم الضمائر التي يستمد رخام القبور منها النصاعة.. والموتى، تنقطع صلاتهم مع الدنيا، وهم لا يشعرون.. ولكن التعرض لهم، يصيب أهلهم بالأذى، ويجدد موتهم.. وعليه، فإن النفس الخالية من السادية تأنف الإيذاء.. وكذلك القلوب الحاقدة، فإنها تقوم بواجب العزاء.. إذا انتقل الخصم إلى الدار الأخرى.

 

يروي محمد حسنين هيكل، أنه عندما بلغ الرئيس الأميركي ريتشاد نيكسون، وهو على ظهر بارجة تقوم بأعمال المناورة في البحر الأبيض، نبأ وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، وهو ألد أعداء أميركا، أمر بوقف المناورة احتراماً، وقَفَل راجعاً إلى بلاده.

 

رفيق الحريري.. مثل كثرةٍ من اللبنانيين، كان طالباً رقيق الحال، وكان يعمل في وظائف عدة لكي يؤمن علمه ومعيشته، ثم رحل إلى السعودية، فأصاب ثروة كانت تؤهله لأن يقطع الصلة مع ماضيه الفقير ومع أهل الفقر وأصدقاء الفقر، ومع بلده الذي تتآكله الحروب، ولكنه بدلاً من ذلك عاد بثقله وماله وحياته إلى ماضيه العزيز على قلبه.. وآثر أن يسلم الروح في كنف ذلك الماضي، من أجل مستقبل لن يتمكن أن يراه.

 

بعد هذا، ارتأيت أن أسرد بعض الوقائع التي أعرفها، ليس من باب الوفاء أو التذكرة، بل من أجل تأكيد الاحترام للقيمة الإنسانية، ونأياً عن لغة يندم لسان قائلها، إذا، ما أعاد الاستماع إليها في لحظة صفاء.

 

الحادثة الأولى، سمعتها منه، وهي أنه في إحدى ليالي القصف المجنونة، وكان يحاول الوساطة بين المتقاتلين، فاضطر إلى المبيت في القصر الجمهوري لانقطاع الطرق، وفي الصباح، قال لفخامة الرئيس أمين الجميل، «لست أدري كم زادت ثروتي في هذه الليلة التي بتها عندك، ولكن ما قيمة الثروة، إذا فقد صاحبها وطنه؟».

 

والثانية رواها لي الرئيس فؤاد السنيورة، إذ يقول إن الشهيد طلب إليه استدعاء الكاتب العدل، لكي ينظم تأميناً عقارياً بأملاكه كلها لدفع رواتب الموظفين، حيث كانت الخزينة تعاني عسراً فادحاً، فلما استغرب الأمر، قال له: «لا عِزَّ لنا، إذا انهارت الدولة».

 

الثالثة، على لسان الفضل شلق، الذي حدثه الشهيد من مطار بيروت وهو يودع الدفعة الأولى من الطلاب إلى باريس، وكان الفضل بانتظارهم هناك، فأوعز له أن يشتري لهم معاطف قبل وصولهم إلى العاصمة الفرنسية، لأنهم صعدوا إلى الطائرة بثياب صيفية.

 

الحادثة الأخيرة، رواها الأستاذ محسن دلول، يقول فيها إن الرئيس الحريري سأله عندما وجده متجهماً، عن السبب، فقال له – وكان وزيراً للدفاع – إن ضابطاً في الجيش، من خبراء المتفجرات، بترت يده أثناء تفكيك لغم، وإن الميزانية لا تسمح بعلاجه في أميركا، حيث يمكن أن تركب له ذراع اصطناعية تتلقى الأوامر من الدماغ، ولكن الرئيس سأله عن اسمه فقط، ولم يعلق. وبعد أسبوع كان الضابط في طريقه إلى الولايات المتحدة. وفي يوم، استأذن الوزير دلول له أن يزوره بعد ما تم علاجه، فتردد في البداية وساءه أن يعرف أن العلاج كان على حسابه، ثم قبل بعد ذلك، وقال له «عيّن له موعداً» فأجاب محسن: «إنه واقف في الخارج»، فلما دخل عليه، أدى له التحية بذراعه الجديدة، ثم سلم عليه، فأطال الرئيس الحريري السلام واستغرق دقائق عدة وهو ينظر في عينيه، فلما خرج التفت إلى الأستاذ محسن، وقال له، كنت أدخل السرور من عينيه إلى قلبي..

 

رفيق الحريري… كما أسلفت، رجل عادي، أحب الناس العاديين، ومات بصورة عادية، أي كما يليق بالعظماء.