مئة دراجة غزت قرية ساحة ساسين الميلادية
… وبينما كانت المغرب تضع آخر كراتها في شباك البرتغال كان هناك من «يلعب بالنار» في أحياء بيروت. تأهلت هي للدخول في المربع الذهبي لكأس العالم وتأهلنا نحن للولوج في فتنة متجددة من بوابة الأشرفية. لماذا الأشرفية؟ لماذا عبور مئة دراجة الى قلب الأشرفية، الى قلب شارع ساسين في الأشرفية، التي كانت تحتفي في سوق ميلادي أمام شجرةعملاقة عُلقت عليها عبارة: «منعيّد الأمل»؟ سؤالٌ يتكرر في الوقت الصعب، في الوقت الأكثر صعوبة، في تاريخ الوطن الذي يراد حتى اللحظة أن يكون واحداً أحداً.
واستيقظت الأشرفيه هادئة في الشكل قلقة في العمق. نقف عند أعتاب صورة البشير المذيلة بعبارة: ترتفعون يبقى لبنان. لا مظاهر أمنية. لا جيش وقوى أمنية ولا نواطير حراس. مجموعة شباب يرتشفون قهوتهم في «ستاربكس». ورجال في المقلب الثاني من العمر يتناولون كعكة الكنافة أمام «باتيسريات» المستديرة. ومجموعة من الفيليبنيات يلتقطن لهن صوراً أمام الشجرة العملاقة التي رُفعت. الأشرفيه قالت كلمتها من زمان: ونبقى. هي قررت أن تحيا على الرغم من كل السواد وأن تشكل رمزاً لكلمة الحقّ. إمرأة تضع وشاحاً وقفت هي أيضاً لالتقاط صورة تذكارية أمام شجرة الميلاد. الميلاد حبّ لا مجرّد كلام.
موتوسيكلات وتزريك
هدوء المكان يقابله توتر على الـ»سوشيل ميديا». وأسهل شيء هو الإتهام: ومن ليس معي فهو ضدي. فمن ليس مع ستي هو حتماً، في قاموس البعض، مع جدي. وكأن التخوين ثقافة والأمن لعبة «بيت بيوت». هناك من يضمر شيئاً ويحلو له اللعب دائماً من بوابتي عين الرمانة والأشرفيه. وأول البارحة كانت جولة جديدة ألصقت بشباب طريق الجديدة ومطرحها الأشرفيه. فهل علينا أن نلعن العيش المشترك؟ وماذا عن لعبة الموتوسيكلات التي تستخدم في كل مرة يُراد فيها العبث بالأمن والتزريك الطائفي وتلويث الأجواء؟
فلنسأل نائب بيروت عماد الحوت عن ما رآه وسمعه في الساعات الأربع والعشرين الماضية؟ يقول: «أيّ مشهد إستفزازي هو مرفوض ومدان خصوصاً أن ما حصل أول من أمس. فالمشهد الإستفزازي الذي تكرر في الأشرفيه لم يعرف حتى هذه اللحظة من وراءه» ويستطرد «أشعر ان هناك من يحرك النزعات الطائفية لاستثمارها بشدّ العصب، لهذا أتريث لأعرف لماذا حصل ما حصل من مشهد ليس إعتيادياً ولا طبيعياً. أعتقد أن هناك جهة ما وراءه. هو عمل مخطط وليس عفوياً. ومطلوب وبإلحاح أن نعرف من هم وراءه كي لا يتكرر. فما حصل غير مبرر فلا إحتكاك سابقاً بين شباب طريق الجديده وشباب الأشرفيه. واضحٌ ان هناك من استعدّ له لإثارة الغرائز والفتن، مع العلم ان العلاقة بين الناس، على اختلاف طوائفهم، من أجمل ما يكون إذا تُركوا لأنفسهم لكن حين يدخل إستثمار الزعامات والمصالح وأصحاب الحسابات، من أجل شدّ العصبيات، يُصبح كل شيء مباحاً». كلّ من رأى البارحة هجوم الدراجات النارية على الأشرفيه تذكر مشهد الشبان الذين اعتادوا ان يفعلوا ذلك هاتفين: شيعة شيعة. فهل فعلها اول البارحة من يهتفون: سنّة سنّة؟ تغريدات متسرعة وتغريدات عقلانية وتغريدات أتت غبيّة. أحدهم سأل شباب الأشرفية «لو نزلوا «موبيلاتات» من الأشرفية على طريق الجديده أو على الضاحية يحملون علم فرنسا ويهتفون allez les bleus كونوا أكيدين لم يكن أحد ليُقرّب صوبهم». هذا كان ميشال ألفترياديس. أحدهم أجابه: إفتح فرع ميوزيك هول في الضاحية كي نرى الإستقبال بالأحضان. بعيداً عن القيل والقال وغباء بعض التغريدات، ما رأي مصطفى علوش بغزوة الأشرفية المتجددة؟ يجيب الدكتور «خلق مشكلة بين الأشرفية وطريق الجديدة اليوم ليست عفوية وعلينا أن نسأل عن الرسالة منها؟ ومن يحاول اليوم الدسّ بين طرفين كانا حليفين؟ وكيف إجتمعت مئة دراجة نارية في لحظة واحدة وجميعنا نعلم من هو قادر على حشدها في نقطة واحدة؟ هل هم من الطائفة السنية ام من حركة أمل و»حزب الله» ام من سرايا المقاومة؟ كل التساؤلات واردة. ثمة رسالة سياسية من وراء ما حصل فما هي؟ فلنتريث الى حين تتمظهر. يفترض ان يتم التحقيق في ما حصل كي لا يتكرر ذلك في بلد مفتوح على كل الأهواء والأجواء. يجب ان نعلم هل ما حصل مؤامرة محلية أم إقليمية أم دولية؟ ما حصل يستدعي تحقيقاً. مئة دراجة توجهت الى الأشرفية فهل يعقل أن لا أحد إلتقط وجهاً. هل تمّ القبض على أحد؟ هل تمّ التحقيق مع أحد؟ تحديد هوية الغزاة وحده يقطع دابر أي فتنة».
ماذا حدث ليل السبت – الأحد في ساحة ساسين؟
هناك لبنانيون يحبون المونديال وهناك عائلات تبحث عن لحظات فرح يُمضيها أطفالها في الزمن الأسود. كانت الساعة – بحسب مصدر فاعل موجود هناك – نحو الثامنة إلا ربعاً. تراتيل وأضواء وأطفال وشجرة ميلادية. وفجأة ارتفع هدير الدراجات قبل وصولها. ظنّ الجميع أنها تظاهرة فرح بفوز المغرب. وطلب المصدر من الشباب البقاء الى جانب الطريق ريثما تغادر الدراجات. لم يظهر في البداية أي استفزازالى حين وقف ركاب نحو عشر دراجات أمام شجرة الميلاد في ساحة ساسين وراحوا يتلون عبارة للرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في مناسبة الذكرى 949 لمعركة ملاذكرد التي انتصر فيها السلاجقة على بيزنطيا: يا الله… بسم الله… الله وأكبر. هتافٌ إستفزّ الشباب ودفع العائلات الى الإبتعاد عن الساحة. هي خمس دقائق فقط حصل فيها هرج ومرج وهجم شباب الأشرفية على من أرادوا العبث معهم. تدخلت قوّة من الجيش وأوقفت «كمّ شاب». هناك من أرادوا أن يستفزّوا ويعبثوا عن قصد ربما، مستغلين مسيرة فرح توغلوا فيها. لو هتف هؤلاء «مغرب مغرب» لكانت إنتهت المسيرة كما بدأت لكن إستفزاز وجود شجرة ميلادية وتراتيل في ساحة ساسين البعض حوّل المسيرة الى غزوة. وشباب الأشرفية ليسوا فرسان العذراء بل أقوياء أشداء ويعرفون كيف يوقفون العابثين مكانهم ويردعونهم». إنتهى الوصف بدقة.
لماذا يتكرر هذا النوع من الإستفزاز؟ سؤالٌ يتكرر في كلِ مرة. لا، شباب طريق الجديدة لم يعبثوا مع شباب الأشرفيه. ثمة من يُضمر الشرّ الى المدينة منذ فترة وينتظر اللحظة المناسبة وأول البارحة كانت لحظة مناسبة. كل نواب الأشرفيه إستهجنوا. جميعهم استنكروا. كلهم رفضوا ما حدث. فهل نضع نقطة على آخر السطر ونقول مع القائلين: ما تكبروها؟
مشهد يتكرر
كثيرون عادوا في اليومين الماضيين الى أحداث الخامس من شباط عام 2006 يوم دخل من دخل من الاصوليين الأشرفية، باحثين عن السفارة الدنماركية. خرّبوا واستفزوا وغادروا. هناك من استغلّ الحادثة – ولا يزال- ليرمي سهامه في وجه من يتحالف مع سنّة بيروت من المسيحيين باسم ثورة الأرز. وهناك من سيستغلّ ما حدث ليل السبت ليقول: هؤلاء هم السنّة. إنهم كما من يهتفون: شيعة شيعة. لكن، من يراقب بدقة يدرك أن أيادٍ تعبث في كلِ اتجاه. سكان الأشرفيه لم ينسوا بعد أحداث الطيونة وأحداث مارمخايل كما لم ينس سكان عين الرمانة أحداث 2011 و2015 و2016 و2017 و2019 و2020 و2021. نفس الغزوات تتكرر ودائما في اتجاه المناطق المسماة مسيحية. كل ما يحصل ويتكرر يؤكد أن ارضنا تستمرّ خصبة لكل انواع الغزوات والأحداث. فالدولة لم تفعل شيئاً منذ نهاية الحرب الأهلية كي تفكك آليات النزاع ومعلوم، كما كان يقول لقمان سليم، أن لا خروج من الحرب الى السلام إلا عبر مطهر حلّ النزاع والعدالة الإنتقالية. لم يحدث ذلك، بالعكس، ثمة من يذهب للقول أن الدولة تستفيد من «إستفزازات الأرض» في بعث حياة لنفسِها.
الدولة متحللة. والشعب، على اختلاف طوائفه، قادر أن يعيش ويتعايش، لكن ما يحصل في كلِ مرة أن هناك من يصرّ على اللعب على الوتر الطائفي. لكن هل هي صدفة أن يحدث ذلك في كل مرة في اتجاه المناطق المحسوبة على المسيحيين؟ ثمة استفزاز حتى ولو قيل العكس. وليس سراً أبداً أن الزعامات الطائفية في كل مرة تشعر بخطر على نفسها تهب الى لملمة طوائفها في بلد الثقافة السياسة فيه هي ثقافة الزعامات لا الإنتخاب، المبايعة لا الإقتراع.
فلتان
الأشرفية، أشرفية البشير، قلقة. هذه هي الحقيقة. فالأمن «فلتان» والدراجات النارية شكل من أشكال الفلتان، من خلالها تحصل السرقات ومن خلالها تحدث الغزوات. وماذا بعد؟
هناك من رأى في حادثة الأشرفيه ما هو مقصود لا عفوي وهناك من رأى فيها ما هو عفوي غير مقصود. لكن، هل من العفوي إلتقاء مئة دراجة نارية في لحظات وتتوجه الى قرية ميلادية؟ هل هو أمر عفوي ان يهتف شباب بعبارات أردوغانية بينما التراتيل الميلادية ترتفع؟ في كل الأحوال، شباب الأشرفية كانوا حاضرين، كما دائماً، للقول: نحن هنا. ردوا الغزاة والبارحة ارتفعت من جديد التراتيل والزوار مسلمون ومسيحيون. ففعل المحبة في أشرفية البشير يبقى أقوى.