لا يجوز التذرّع بصغر حجم إشكال الأشرفية لتجاهل أسبابه وما كان يمكن أن يحدثه من تفاعلات. هو ليس كغزوة 5 شباط 2006 التي كسرت وحرقت وخلطت شعبان الرسوم الدنماركية المسيئة برمضان كنيسة مار مارون – الجميزة والأحياء السكنية التي لا ناقة ولا جمل لها بمشكلة ثقافية طاولت العالم الإسلامي كلّه آنذاك. لكن الحادث جرس إنذار جديد بأن البلاد لا تحتمل هفوات وبأن مسؤولية المتسبّبين بالانهيار، وعلى رأسهم مجلس النواب، مضاعفة بما لا يقاس.
يمكن لعالِم اجتماع استخلاص مواد دسمة من جموح المحتفلين بالنصر الكروي المغربي للمرور في الأشرفية حيث احتفالات ليالي الميلاد. ولن يغيب عنه ربط الانفعال المعبَّر عنه بهتافات دينية وأعلام فلسطينية وعروبية بالشغب المشين، الذي أحدثه المهاجرون المغاربة في بروكسيل بعدما فازوا على البلجيك، أو بمحاولات إحراق السيارات وتكسير إشارات المرور وواجهات المحال في الشانزليزيه، بالتزامن مع مرور الدراجات مساء السبت في ساحة ساسين. وربما وجَد الباحث وجوه شبه بين الرغبة الدفينة في عنف انتصاري، ولو عبر «الساحرة المستديرة»، تجاه «آخر» أوروبي، لأسبابٍ تاريخية تعود الى ذاكرة الاستعمار أو صعوبات الاندماج، وبين الصورة المتخيلة عن «آخر» في لبنان ممزوجة بترسُّبات الحرب وانقسام المناطق، وتغذيها مناوشات المذاهب والطوائف على مدى سنوات ومظاهر ثقافة الانفصال المتمثلة بتيارات وإيديولوجيا أصولية وتفاهمات مصالح خرَّبت مفهوم الدولة والهوية الوطنية الجامعة.
تلك مباحث تُترك للأكاديميين والجامعات. أما الذي يجب أن يشغل بالنا اليوم فهو تفكّك الدولة الذي يسمح بتكرار أحداث تأخذ شكل استفزاز وتحدٍ في بلدٍ يقف دائماً على براميل نيترات. وهنا يجب أن يتوقّف استسهال الحديث عن أنّ «كل المناطق اللبنانية مباحة لكل لبناني». فهذه التفاهة ترسلها العقول الساذجة أو الطائفية الخبيثة أو تلك التي توقَّف «اليسار» في مفهومها عند «الحرب الباردة» أو «إنجازات» الستالينية المجرمة، أو الممانعة التي تقودها طهران.
كلّ مناطق لبنان مفتوحة لكلّ لبناني يمارس مواطنيته تحت سقف القانون ولا يعرّض السلم الأهلي للخطر ولا يشعل فتيل بارود. وإذ نريد التصديق بأن احتفالات السبت لم يكن وراءها أطراف أو مخططات، فإن لَومنا الشديد يقع على أجهزة الإستقصاء والتحرّي لفشلها في تقدير خطورة مرور مئات الدراجات النارية في منطقة لها تجارب مُرة وحساسة مع هذا النوع من العراضات، وفي وقت أفسحت الفوضى وتزايد الجريمة في المجال لدعوات الحماية الذاتية بهذه المنطقة بالذات، والى استعادة عصبوية مناطقية وطائفية يثيرها وجود مناطق مغلقة وتمسك «حزب الله» بسلاحه وأمنه الذاتي.
تقع على القوى الأمنية الميدانية مسؤولية تقصيرية بالتأكيد، ذلك أنها تعودت مشاهد الاستفزازيين بخوفٍ ووجل، مثلما تغضّ الطرف عن السلاح غير الشرعي الذي توسّع ليشمل بيئات سياسية وطائفية لا تماسَّ بينها وبين اسرائيل، ومهمّته محصورة بمشاريع الغلبة.
خلاصة القول إنّ استهانة «المنظومة» الحاكمة بواجب الامتناع عن التعطيل وفتح الباب لحلولٍ تنقذ الدولة قبل المواطن العادي، باتت عامل تحريض على كلّ أنواع التعديات والجرائم الجنائية وعنصر تشجيع لدعوات الطلاق والتفريق، فلا عجبَ أن نستفيق يوماً على حادث خطير، أو شرّ مستطير.