IMLebanon

عشاء عسيري وخطاب نصرالله.. سوريا الفيصل

أكدت إطلالتا الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله والسفير السعودي في بيروت علي عواض عسيري في يوم واحد آخر الأسبوع المنصرم، أن لبنان لا يزال الساحة الفضلى للصراع السياسي بين المحورين السعودي والإيراني، وأن الصراع العسكري في سوريا مستمر وسط قناعة كل طرف بأنه المنتصر في نهاية المطاف.

رسائل العشاء:

ليس غريباً أن يجمع السفير السعودي كل هذا الحشد وبينه حلفاء لـ «حزب الله» ويوجه اللوم للحزب بحضورهم. السعودية دولة تُسيل اللعاب السياسي والمالي عند اللبنانيين. المناعة السياسية اللبنانية أصلاً ضعيفة عبر التاريخ، لذلك هي شرّعت أبواب الوطن لكل الدول والأمم. لنتذكر كيف «هجم» كل الطاقم السياسي يصافح بحرارة السفير السوري علي عبد الكريم علي في الاحتفال الضخم الذي أقامته سوريا في «البيال» في العام 2010 لمناسبة عيد الجلاء الرابع والستين. لنتذكر كيف وقف من ينتظر في الصفوف الطويلة بانتظار المصافحة. آنذاك حضر الجميع بمن فيهم أولئك الذين نصّبوا أنفسهم «أبطال» إخراج سوريا من لبنان بعدما أفادوا منها بالمناصب والصفقات وبعدما أسسوا لأسوأ فريق لبناني سوري نهب البلد وأخضعه لما سُمي بـ «عهد الوصاية». جاء بعض هؤلاء آنذاك حتى من دون دعوة طالباً الصفح. (راجعوا اللائحة ستفاجأون).

يعرف السفير السعودي القادم من عالم الأمن والمخابرات والديبلوماسية والإدارة (التي تعلّم بعضها في بريطانيا ومارس بعضها في باكستان والعالم)، يعرف كما معظم سفراء العرب والعالم في لبنان أن الجموع السياسية اللبنانية لا تعني شيئاً. هنا لا مبادئ ثابتة بل مصالح وانتهازية تتغير بتغيير الرياح. لكن عسيري الذي يتحدث الإنكليزية والفرنسية يعرف أيضا أن بعض من حضر الى مائدته، يريد لغة ديبلوماسية جديدة تخرج لبنان من كبواته الرئاسية والسياسية والأمنية بمعزل عن المصالح وتحمي اللبنانيين العاملين في الخليج. فكلام السفير السعودي يلتقي في مكان ما مع كلام الرئيس نبيه بري حول «دوحة جديدة»، ويتقاطع مع جولة رئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط الى الكويت والخليج.

إذا كان لا ضرورة لتحميل عشاء أكثر مما يحتمل، فالأكيد أن جمع معظم لبنان إلى طاولة عسيري إنجاز سياسي مهم للسفير وبلاده. مهم لتأكيد الحضور السعودي، ومهم للقول بأن السعودية تستطيع جمع كل خصوم «حزب الله» وحلفائه فتعزله، ومهم ثالثاً لتوجيه رسائل الى إيران والحزب ولمن يريد أن يسمع بأن لا تغيير في المواقف ما لم تغير طهران مواقفها. فالعشاء هو أول تظهير سياسي كبير لدور السعودية بعد وضعها الحزب على «لائحة الإرهاب» وبعد الحرب على اليمن والانخراط في الحرب السورية وما تخلل ذلك من هزات في الحج وغيره مع إيران.

رسائل الخطاب

لم يكن خطاب السيد نصر الله وليد لحظته. هو مقرر منذ فترة. اغتيال القيادي مصطفى بدر الدين سرّع به فتزامن، من دون قصد، مع عشاء عسيري. قال نصر الله: «إن الآتي هو الانتصار في هذه المعركة (السورية)، نحن باقون في سوريا، سيذهب قادة الى سوريا أكثر من العدد الذي كان موجوداً في السابق، سوف نحضر بأشكال مختلفة وسنكمل هذه المعركة». قالها بعدما كال الاتهامات للسعودية. الرسالة في الخطاب موجهة إذاً لها قبل غيرها. فهي المتهمة من قبل الحزب بدعم مسلحين قتلوا بدر الدين.

جاء رد عسيري غير المباشر على نصر الله متعلقاً أيضاً بسوريا من دون أن يسمّيها، قال: «إن مصلحة الوطن تتطلب خلال هذه المرحلة إبعاده عن الملفات والتجاذبات الإقليمية كافة وعدم ربط مصيره بمصير أي طرف… بمعزل عما سيؤول إليه وضع نظام هنا أو نظام هناك»، محمّلا خطابات الأمين العام للحزب من دون أن يسميه أيضا مسؤولية استجلاب: «الانعكاسات السلبية على الاقتصاد والوضع اللبناني عموماً بعدما ربطت نفسها بشؤون إقليمية ومحاور». للكلام هنا أهمية خاصة لكونه يتزامن مع الحركة المصرفية اللبنانية بضغوط دولية ضد بعض مال الحزب، ويتزامن أيضا مع اختراقات في بيئة الحزب سجلتها الانتخابات البلدية ليس رفضاً لدوره كمقاوم بل للممارسات البلدية والإدارية لبعضٍ ممن يحسبون عليه في عدد من المناطق.

ماذا بعد العشاء والخطاب؟

لأن لا شيء يبشر بحل قريب في سوريا، ولأن أوباما يشارف على إنهاء ولايته تاركاً خلفه أسوأ حروب القرن مشتعلة، فإن السعودية التي كثفت التحالفات العربية والإسلامية في الآونة الأخيرة، تعمل حالياً في اتجاهات ثلاثة: أولها إنهاء الحرب اليمنية عبر استمالة الحوثيين وعزل علي عبد الله صالح (خصوصاً القائلين منهم بأنهم لم يتلقوا الدعم الذي وُعدوا به من إيران وغيرها)، وثانيها رفع مستوى الضغط العسكري في سوريا. قد نرى ذلك بوضوح أكثر من الغوطة الى الشمال قريبا. وثالثها الاستمرار في رسم تحالفات في المنطقة (ناهيك طبعاً عن إثارة موضوع الأهواز وغيره).

كانت ضربات المسلحين القريبين من السعودية وتركيا قاسية في الشمال السوري بعد انسحاب وفد الهيئة العليا للمفاوضات من جنيف. لكن موسكو لا تريد، حالياً على الأقل، خرق الخطوط الحمراء الكبرى في الشمال. تطمح الى مزيد من التنازلات من أوباما قبل رحيله.

هذا ما يُفسر، على الأرجح، تحويل جزء من المعركة صوب الغوطة الشرقية لدمشق. كان لهذه المعركة التي حقق فيها الجيش السوري وحلفاؤه تقدماً مهماً، رسائل عديدة، أولاها رد على الخرق والخسائر في الشمال، وثانيتها استكمال ما كان قد بدأه مصطفى بدر الدين ورفاقه مع الجيش السوري من استعدادات للغوطة، وثالثتها ضرب معاقل لمقاتلين من حلفاء السعودية وتوجيه رسائل إليها.

ممنوع في حلب مسموح في الرقة ودير الزور؟

لا شك في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نسّق طويلاً هو ورئاسة أركانه مع إيران والجيش السوري و «حزب الله» انخراطه العسكري المباشر في الحرب السورية. جرى تبادل معلومات وخرائط وإحداثيات. تم تحديد الأهداف وتقاسمها بدقة على مدى أشهر. دُرست الاحتمالات العسكرية والسياسية للطرف الآخر. حقق ذلك إنجازات سريعة ورفع معنويات الناس حيال الجيش السوري وأرخى أجواء إيجابية في بيئة «حزب الله» في لبنان.

هذه الأجواء تبدلت لاحقاً حين تبين أن بوتين لا يخبر حلفاءه كل ما يتفق بشأنه مع الأميركيين. هو أصلاً لا يعتبر نفسه جزءاً من محور المقاومة. (لا بل يتناقض معها جذرياً حيال إسرائيل). يتعمد وزير خارجيته منذ فترة تكرار عبارة أن موسكو ليست «حليفة» لبشار الأسد ولا تدافع عنه. دمشق تخفف من ذلك وتتحدث عن علاقة استراتيجية بعيدا عن التعبيرات الديبلوماسية الضرورية بين وقت وآخر. إيران تتصرف على أن موسكو حليف استراتيجي بالرغم من الخلافات في النظرة الى الهدنة والعمل على الأرض بين وقت وآخر.

يرشح من دمشق وحلب هذه الأيام تجدد التقارب في الاستراتيجيات مع موسكو. قد يظهر ذلك في دير الزور قريباً. لن يصل الأمر الآن الى مرحلة استعادة وتيرة الهجوم الكبير على حلب والمغطى جوياً من روسيا، لكنه سينتج على الارض وضعاً جديداً في المنطقة يكون بين تشديد الحصار والاستمرار بضوابط الهجمات. هذا مهم للمعنويات، خصوصاً أن أهل حلب يشعرون بخيبة ويأس.

تبدو الرقة الآن ودير الزور على أنهما أوراق ترضية بديلة لحلب. الرقة أسهل قتالياً نظراً لطبيعتها الجغرافية ووجودها بين نيران كثيرة من العراق الى سوريا. هي مهمة لأوباما كي يحقق إنجازات ضد الإرهاب قبل رحيله. مهمة له أيضا في إرضاء العمق العربي السنّي عبر ربط الموصل ومناطق عراقية بسوريا وتقديم دعم من التحالف الدولي. هذا لا يضير موسكو ما دام التحالف سيضرب خصومها ويعزز دور الجيش السوري.

لكن ماذا لو كان المراد هو استبدال التقدم في الرقة ودير الزور بوقف التقدم في حلب حتى إشعار آخر، أي حتى التغيير الأميركي؟ وماذا عن الإدارة الأميركية المقبلة؟ هل تبقى سوريا موحدة أم تنتقل خطوط التماس العسكرية الى خطوط سياسية؟

كان لافتاً قول وزير الخارجية الأميركي جون كيري: «إن أطراف النزاع في سوريا متفقون على أهمية إبقاء سوريا موحدة غير طائفية». سبقه بأيام قول وزير خارجية قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بعد لقائه في موسكو الرئيس بوتين: «على الرغم من كل الاختلافات في مقاربتنا، فإن الشيء الرئيس الذي يجمعنا هو الرغبة في التوصل الى تسوية سياسية، تتيح الحفاظ على وحدة أراضي سوريا وسيادتها».

هل هذا يطمئن سوريا كي تبقى في الإطار التفاوضي، أم يطمئن تركيا التي تنظر بعين القلق إلى التقدم الكردي في المناطق الحدودية وبدعم دولي؟

الأسئلة كثيرة لكن الجميع يحشد في حلب وحولها. والجميع يدرك أن حسم المعركة فيها لهذا الطرف أو ذاك، ومهما كانت التكاليف عالية، سيقلب وجه المعادلة. المشكلة أن لا أحد يعرف كيف يحسمها وسط غموض التفاهمات الروسية الأميركية الحالية. واشنطن وموسكو تريدان إلزام الجميع بالعودة الى المفاوضات. هذا أقصى ما يستطيع أوباما تركه خلفه بالتزامن مع العمليات في الرقة. أما الأطراف الأخرى فتبحث عن مكامن ضغط من دمشق الى الشمال. هذا بالضبط ما جعل نصرالله يتحدث عن إنجازات الغوطة الشرقية.