قرأ مسؤولون وسياسيون بارزون في مطاوي المواقف التي أعلنَها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أمس حول الاستحقاق الرئاسي “نأياً” عن المرشّحين الأربعة الأقوياء من دون إعلان مباشر، في الوقت الذي يَهمس ديبلوماسيون غربيون أنّ الإدارة الأميركية لا تحبّذ أياً منهم، وأنّها تنصَح بتأجيل البحث في هذا الملف إلى مطلع السنة الجديدة.
نادى الراعي في عظته إلى أن يكون الرئيس العتيد “حكيماً وفطناً وصاحبَ دراية، مردّداً نداءَ المطارنة الأخير إلى “الرئيس الحكم”، لا “الرئيس الطرف”، ولا الرئيس الصوري”. وقال: بات من واجب الكتل السياسية والنيابية أن تعلن بوضوح وتُصارح، إيجاباً أو سلباً، الأشخاص الذين صار ترشيحهم معروفاً، منعاً لرهنِ البلاد وشعبِها ومؤسساتها للعبة سياسية نجهل أهدافها ومآلها”.
المتفائلون يقولون “إنّ هناك عملاً صامتاً يجري راهناً لتدوير الزوايا وتقريب المسافات بين الجميع استعداداً لاحتمال إقدام الحريري على تبنّي ترشيح رئيس تكتّل “التغيير والإصلاح” النائب ميشال عون”. ويعتقد هؤلاء أنّ حراك الحريري المستجد في ظلّ التعقيد الذي تعيشه أزمات المنطقة وصعوبة تحييد لبنان عنها يخلق واقعاً جديداً في البلد ويجعل من مسألة إنجاز الاستحقاق الرئاسي حقيقة، سواء جاء لمصلحة هذا المرشح أو ذاك.
لكنّ البعض يسأل عن الدافع الذي أملى على الحريري تحرّكه، وهل إنّه يندرج في سياق مشروعٍ ما أو يشكّل “رأس جسر” لمشروع ما أُعدّ في شأن الأزمة اللبنانية لا بدّ من أن يظهر إلى العلن لاحقاً؟”. ويتوقع هؤلاء أن تكون الايام المقبلة كفيلة باستبيان حقيقة هذا المشروع، إذا كان موجوداً، ولكنّهم يستبعدون النجاح في تحييد لبنان عن مشهد المنطقة المشتعل، ولا يغفلون الإشارة إلى صمت الجانب الاميركي عن الموضوع الرئاسي اللبناني، وإن كان يرشح منه أنّه ينصَح بالصبر بضعة أشهر واستمرار العناية باستقرار لبنان.
غير أنّ مرجعاً سياسياً يرى أنّ مناخ التفاؤل السائد “هو صنعٌ لبناني، والمضحِك المبكي أنّ هذا هو المصنع الوحيد الشغّال في لبنان، ولكن إلى أن تثبت جودة هذا الصنع علينا أن نتمعّن جيّداً لنعرف أيّ يدٍ استخدمت في هذه الصناعة”.
ويضيف: “إذا كان الحريري مأزوماً فهل هذا يعني أنّ الدول مأزومة؟ الحريري له أزمتُه وهي تعنيه، والدول بعيدة جداً عن الأشخاص والأزمات، بل هي لها مصالحها التي تسير على هديها في اتّجاهها من دون النظر الى أيّ اعتبار آخر، اسألوا الولايات المتحدة الاميركية، ونقطة على السطر”.
لكنّ البعض يعتبر أنّ المسألة هي بكلّيتها عند المملكة العربية السعودية، ويفسّر هؤلاء ما يُنقل عن مسؤولين سعوديين “أننا لا نريد التدخّل في انتخابات رئاسة الجمهورية وأنّها شأن لبنانيّ”، بأنّ السعوديين يدعون الأفرقاء اللبنانيبين الى الاتّفاق في ما بينهم، وذلك على الطريقة نفسِها التي كان يتبعها السوريّون في لبنان، حيث كانوا يديرون الظهرَ للخلافات بين المسؤولين أو بين الافرقاء السياسيين مردّدين عبارة “لا نريد التدخّل”.
وفي رأي هؤلاء أنّ الحريري يفهم هذا الموقف السعودي على أنّه “ضوء أصفر”، إذ لا ضيرَ للرياض من أن يكون لها فريق من حلفائها في رئاسة الحكومة، وفريق آخر في موقع معارض، سواء لرئيس الحكومة، أو داخل صفوف القوى السياسية الحليفة لها.
وفي رأي سياسيين متابعين أنّ التسوية السياسية آتية عاجلاً أم آجلاً، والمفضّل لدى الغالبية ان يكون الحريري من أركانها، لأنّها تشكل “الفرصة الحقيقية الأخيرة” لإنقاذ “اتّفاق الطائف” عند “أهله”، فإذا لم يتمّ إنقاذه في ظلّ ذهاب المنطقة الى تغيير في طبيعة انظمتِها السياسية، فإنّ لبنان لن يكون في منأى عن هذا التغيير، خصوصاً إذا استمرّت ازمته على استفحالها، وعلى الأرجح أنّ الحريري قد امتلك بعض هذه المعطيات في هذا المجال وبات مقتنعاً بأنّ حلّ الأزمة بدءاً بانتخاب رئيس الجمهورية ينقذ “الطائف” ويَحول دون ذهاب البلاد الى تغيير من خلال “مؤتمر تأسيسي”، خصوصاً أنّ بعض السياسيين بدأوا يهمسون بأنّ “فندقاً ما بدأ تحضيرُه في سلطنة عمان لاستضافة مِثل هذا المؤتمر؟!”.
وعلى جبهة المتفائلين أيضاً فريق يقول إنّ هناك “صفقة حلّ” هي بمثابة “سلّة” يجري إعدادها حالياً ولا مصلحة لأحد في كشفِها أو تسميتها “سلّة”. ويقول هؤلاء إنّ المشكلة ليست بوجود “فيتو” سعودي على هذا المرشح أو ذاك، فهذا “الفيتو” لم يعد موجوداً، والمسألة باتت لبنانية ـ لبنانية تحكمها مصلحة مشتركة بين الجميع، والخلاف يدور الآن حول “المُقدّم والمؤخّر”، ولكن بالتأكيد “ستحصل التسوية قبل جلسة الانتخابات الرئاسية في 31 الجاري؟”
إلّا أنّ مرجعاً رسمياً كبيراً يخالف هؤلاء المتفائلين جميعاً وينظر إلى ما يجري في المنطقة، فيقول الآتي:
– مشهد اليمن مبكٍ، مجزرة لم يسبق لنا أن شهدنا مثلها، هل هذا العقل العربي مصرّ على إظهار أنّه لا يمتهن إلّا لغة القتل، ومع الأسف قتل الذات.
– المشهد المستفز هو المشهد التركي وتدخّل تركيا المقيت في الموصل، وكأنّ الموصل حارة تركيّة، إذ وصَل الأمر إلى حد وضعِ شروط حتى على أهل البيت أن لا يتحرّكوا في بيتهم، إنّها قمّة الصلف والعنجهية والاستعلاء الحقيقي.
– يجب أن يعلم الجميع أنّ هناك تحوّلاً كبيراً في المنطقة، الروس جاؤوا إلى “غرفة نومهم” التي هي سوريا، وضعُهم الآن واضح تماماً، الروس يثأرون ويثبتون للعالم كلّه “أنّنا موجودون ولا يمكن تجاوزُنا”. تريد روسيا أن تقول للعالم، وللولايات المتحدة الاميركية تحديداً، من خلال رفعِ مستوى استنفارها وجهوزيتها وحضورها في سوريا “إنّ سوريا بالنسبة الى روسيا صارت مثلَ القرم بالنسبة إليها”.
ولذا إقرأوا جيّداً ما قرّرَه مجلس الدوما في ما يخصّ التفويض بوجود عسكري جوّي دائم في سوريا، وانتظروا الأيام المقبلة، الروس جدّيون في هذا المنطق ولا يناورون، ومِن هنا سبب انفعال الأميركيين، لا بل أكثر من انفعال، طبعاً، ويشاركهم في هذا الانفعال الإخوة العرب الأجلّاء”.