أطلّ الأسد، الأربعاء الماضي، 6 أيار، في الذكرى التي ينبغي ألا تغيب عن وجدان أبناء المشرق، ذكرى شهداء التحرر العربي من النير التركي. أولئك الذين علّقهم جمال باشا السفّاح على المشانق. سقطت المشانق، وسقطت الخلافة، وبدأ نضال المشرق، الطويل الدامي، للاستقلال وإعادة تأسيس الذات القومية، المغيّبة لأربعة قرون باسم الإسلام. لاحظ الرئيس، عن حقّ، أن التاريخ يكرر نفسه. فالكيان التركي المركّب، أساساً، على إلغاء الآخر، الديني والقومي، وعلى المذابح والإبادة والتهجير القسري، يُنتج السفّاحين، آخرهم أردوغان السفّاح.
وحتى حين يكون تكرار التاريخ على شكل مهزلة؛ فهي مهزلة ملطخة بالدماء، دماء السوريين الذين حافظوا على معنى 6 أيار، ورايات ميسلون والثورة السورية الكبرى على الاحتلال الفرنسي، وقلب العروبة المضادّ، موضوعياً، للصهيونية ومشروعها لاغتصاب فلسطين، وللإمبريالية ومشروعها لتحطيم المشرق. أردوغان السفّاح ليس سوى مسخرة تاريخية؛ فهو المُصاب بجنون العظمة، يظنّ أن في الإمكان إعادة خلافة بني عثمان، برعاية الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية، انطلاقاً من خلافة أبو بكر البغدادي.
يقرأ أردوغان السفّاح، تاريخ أجداده؛ فيرى المشهد مغرياً. مَن أسسوا الدولة العثمانية ليسوا سوى تنظيم إرهابي اجرامي همجي مثل تنظيم «داعش»، أسالوا الدماء وقطعوا الرؤوس، وألغوا القوميات والتقدم الاقتصادي الاجتماعي، باسم الإسلام. هل يمكن أن يحدث شيء كهذا في مطلع القرن الحادي والعشرين؟ وبعد قرن أو أكثر من النهضة العربية وكفاح شعوب المشرق من أجل التحرر والتقدم؟
تقوم خطة أردوغان السفّاح، كما أصبح مكشوفاً، على استجلاب الإرهابيين وتسليحهم ودعمهم، عسكرياً واستخبارياً، وبدقة استخدامهم كقوات مشاة برية للغزو. الديموقراطية والانتخابات؟ دعنا من هذه الكذبة؛ فأي ديموقراطية تلك التي تحاكم مدّعين عامين قاموا بواجبهم القانوني في توقيف شحنات سلاح إلى الإرهابيين في سوريا؟
إلا أن أردوغان السفّاح يعتمد على ما هو أخطر لتنفيذ مشروعه السوري، إنه يعتمد على تهييج الإسلام السنّي بوصفه هوية مضادّة للعروبة والمشرق التعددي بمكوّناته الاتنية والدينية والمذهبية؛ إنها حرب الهويّة التي تدفع سوريين نحو الولاء لأنقرة لا لدمشق، وتجيّشهم مع شيشان وتركستان الخ، لتمزيق بلدهم، وتدمير منشآته وآثاره والسطو على مصانعه لحساب تركيا، والأهم الولوغ في دماء سوريين آخرين، فقط لأنهم مختلفون في العرق أو الدين أو المذهب أو الثقافة ونمط الحياة. ولا يمكننا أن ننكر أن خطة أردوغان السفّاح، نجحت جزئياً؛ فلولا ذلك ما كانت الحرب على سوريا استمرت أربع سنوات. ولعل السر في ذلك النجاح الجزئي، يكمن في الصمت الطويل على جرائم الاسلام السياسي ــــ وفي مقدمته حماس ــــ ضد سوريا، وصمت الحلفاء على العدوان التركي المتصاعد على الشعب السوري وتكوينه وثقافته؛ ذلك الصمت هو، بالذات، ما يسمح بإعادة انتاج الدور التركي ــــ الاخواني ــــ المذهبي ــــ الإرهابي والسياسي، داخل سوريا؛ لاحظوا كيف يتسلل «المعارضون العلمانيون» إلى اسطنبول، ليخونوا وطنهم على الملأ.
هنا، لا بد أن نضع النقاط على الحروف. لا يوجد لدى أي سياسي جدي، شكٌ بأن إيران قد تتخلى عن الدولة الوطنية السورية. فهي، بذلك، تتخلى عن مشروعها كله، أو شكٌ بأن الدعم الإيراني لسوريا عاملٌ من عوامل صمودها؛ لكن، في المقابل، هناك التباس ونقطة ضعف أساسية في العلاقة الكفاحية الثنائية: إيران ليست معنية ــــ حتى لا نقول أكثر من ذلك ـــ بأولوية الهوية العربية على الهوية الدينية. ويعود ذلك، بالطبع، إلى تكوين النظام السياسي في الجمهورية الاسلامية، لكنه يعكس مصالح موهومة للدور الإيراني؛ وأقول موهومة لأن صحوة العروبة في العراق، مثلاً، لن تحدّ من ذلك الدور، ولكنها ستجمع الشيعة والسنّة في هوية وطنية واحدة ــــ شرطها الهوية القومية، لا الدينية ــــ في مواجهة النفوذ الأميركي والسعودي والانفصالية الكردية. وكذلك الأمر في اليمن والبحرين والجزيرة العربية. لكن، في سوريا تحديداً، ذلك البلد القومي العلماني، لن تكون هناك نهاية للحرب من دون توحيد السوريين. وهو يتم، فقط، بالعودة إلى الهوية العربية المشرقية العلمانية التعددية، المعادية ــــ تحديداً ــــ للعثمانية القديمة والجديدة، وللإخوان المسلمين، ولكل خطاب ديني. أي خطاب ديني أو مذهبي في سوريا، مهما حسُنَتْ نواياه، ومهما قدّم من تضحيات، ستكون له آثار سلبية على وحدة السوريين، وبالتالي استمرار التدخل التركي الاستعماري في قلب سوريا.
طلّة الأسد وإدانته العثمانية المجرمة من جمال باشا السفّاح إلى أردوغان السفّاح، مهمة للغاية في هذا التوقيت؛ لكن الحرب تحتاج إلى طلاّت وطلاّت من الرئيس، وخطاب صارم بقوميته وعلمانيته وعدائه للعثمانية وإيقاظ الوطنية السورية؛ لن نملّ منك أيها الأسد، والشعب السوري يحتاج إلى وقفاتك المستمرة في صفوفه؛ فلا تأخذ برأي المستشارين الذين يرونك نجماً؛ إنما أنت مقاتل… وخطابك القومي العلماني يحسم أكثر من السلاح؛ ألم يكن الزعيم الراحل، حافظ الأسد، يطل، يومياً، على السوريين، في تجمعاتهم، ويحشّدهم ضد عصابات الإخوان المسلمين، في مطلع الثمانينات، ويهدر بالفم الملآن: لا مكان للرجعية في سوريا!