IMLebanon

مصير الأسد و… الإقليم رهن تقدم المسار السياسي

فتحت فيينا الباب واسعاً أمام المسار السياسي. لكن الحل ليس خلف الباب. الأزمة السورية ليست وحدها موضوع اللقاءات الموسعة. هي أيضاً تفتح الباب بالضرورة نحو أزمات المنطقة من بغداد إلى صنعاء وبيروت وغيرها. ما سينتهي إليه المسار، أياً كانت نتائجه، سيقرر صورة النظام الإقليمي برمته، والذي يشكل لبنة أساسية في بناء النظام الدولي. من أوكرانيا الأوروبية أو الروسية إلى بحر الصين. التدخل العسكري الروسي لم يبدل قواعد الحرب على الأرض فقط. دفع جميع المتصارعين في سورية وعلى سورية إلى عملية سياسية طويلة. ومن المبكر توقع نتائج فورية وسريعة. فالحوار الواسع والشامل يجري فوق صفيح حارق. وستظل النار مشتعلة كما هي القاعدة في أي عملية لاستثمار ما يفرزه الميدان. وجلوس المتخاصمين جميعاً إلى الطاولة يرسخ حقيقة رئيسية هي أن طرفاً وحيداً أو تحالفاً منهم لا يمكنه ادعاء القدرة على إنجاز حل أو تسوية من دون الآخرين.

عجز القوى الإقليمية لا يحتاج إلى دليل. ولولاه لما استنجدت بالقوى الكبرى، من الولايات المتحدة إلى روسيا وأوروبا. وحتى هذه تسلم هي الأخرى بعدم قدرتها وحيدة على حسم الصراع ميدانياً. لذلك كانت هذه الصورة الجامعة في فيينا قبل أيام. الجميع بدأوا التنازل عن مواقفهم. الرافضون حضور إيران لم يتراجعوا وحدهم خطوة إلى الوراء. هي الأخرى تراجعت أكثر من خطوة. إرسالها طاقم ديبلوماسيتها الكامل إلى اللقاءات طوى صفحة إعلان المرشد علي خامنئي رفضه التفاوض مع أميركا وغيرها في شأن القضايا الإقليمية وما يتعلق منها بحلف الممانعة والمقاومة!

والواقع أن ما تعانيه استراتيجية إيران في الإقليم يهدد بتداعي الكثير من البنيان الذي شادته. ولا حاجة إلى الحديث عن رضوخ حلفائها في اليمن للقرار الدولي 2216 واستعدادهم للبحث في تنفيذ بنوده. وعن الصراعات التي تخوضها لتثبيت مواقعها في العراق حيث تواجه أكثر من تحد. من الصراع المكبوت بين مرجعيتي النجف وقم والذي يتجاوز الديني العقائدي إلى السياسي العام. إلى عودة الحضور الأميركي العسكري تحت لواء التحالف الدولي لمحاربة «داعش». وعبر الدعم الذي تقدمه واشنطن لحيدر العبادي الذي يعلق عليه كثيرون آمالاً بالقضاء على غريمه نوري المالكي، رجل طهران الأول. وقد فشل الأخير في إقناع شريكيه في «التحالف الوطني» الشيعي مقتدى الصدر وعمار الحكيم بحجب الثقة عن رئيس الوزراء تمهيداً لترحيله. ولعل هذا الصراع بين قوى «التحالف» الذي تعتمد عليه أساساً في ترسيخ أقدامها في بغداد هو التحدي الأكبر. ولا ننسى ما حمل ويحمل التدخل الروسي في سورية من مخاطر على مستقبل دورها في هذا البلد. تتناثر الأوراق من بين يدي الجمهورية الإسلامية لحساب خصومها وحساب قوى أكبر.

القوى الأخرى في الإقليم ليست في حال أفضل. صحيح أن التحالف العربي في «عاصفة الحزم» تقدم على الأرض. لكنه بالتأكيد يرغب في استعجال التسوية التي تعيد تقويم الأمور وتصحيح ميزان القوى في اليمن والإقليم كله. ولا يرغب في حرب استنزاف دائمة. ويعتمد خيارات سياسية مفتوحة على روسيا وأوروبا، بالتوازي مع سعي الولايات المتحدة إلى خيارات وشركاء جدد في المنطقة وخارجها، وتعويضاً عن تراجع الشراكة الكبرى معها. أما تركيا فيكفي أن تنظر إلى الخريطة المحيطة بها لتدرك حجم التهديدات. مشكلتها لا تقتصر على عودة القتال مع حزب العمال الكردستاني. ولا صعود القوى الكردية في الساحة السياسية الداخلية. المشكلة في ترسيخ «وحدات حماية الشعب» الكردية كياناً على حدودها الجنوبية سيكمل عليها الطوق، من ديار بكر إلى كردستان العراق وحتى تل أبيض وكوباني وحدود الفرات. وربما توسع جنوباً في ضوء نتائج الهجوم على الرقة. ولا يروقها بالتأكيد ما يواجه حليفها مسعود بارزاني من متاعب مع شركاء يتلقون دعماً واضحاً من إيران. وهم ساحة صراع وتنافس بين أميركا وروسيا، سواء في سورية أو العراق حيث يستعد البنتاغون لمزيد من الانخراط لوقف اندفاعة موسكو في المنطقة والحؤول دون عودتها إلى بغداد بعد دمشق… هل تنسى الولايات المتحدة ما قدمت في بلاد الرافدين. وهل يغيب عنها ما يتردد عما تختزنه صحراء المحافظات الغربية من ثروات نفطية؟

جميعهم متعبون، وينشدون التسويات. وهناك قراءتان في تفسير استعجال الرئيس فلاديمير بوتين فتح الباب أمام إشراك الجميع في الحوار. ليس بعيداً عما تعانيه القوى الإقليمية من عجز عن الحسم أو حتى بناء حد أدنى من توازن القوى يسمح لها بحوار ندي يفضي إلى نتائج أو صفقات. وليس بعيداً عن تخبط أوروبا أمام مشكلة اللاجئين. ولا عن عودة أميركا إلى الساحة العراقية واشتباكها مع الإيرانيين وأعوانهم في بغداد. أطلق بوتين آلته العسكرية على خصوم النظام السوري بلا استثناء. سعى أولاً إلى إعلان حضوره القوي في الحرب من جهة، وإلى إبعاد التهديد بإسقاط هذا النظام وحاضنته الشعبية والمذهبية. لكن الاندفاعة الروسية الأولى لم تحقق الكثير على الأرض، وإن استعادت القوات النظامية بعض المواقع هنا وهناك. دوائر أميركية عزت ذلك إلى عجز هذه القوات وتعبها وإرهاقها، وإلى بعض السلاح النوعي الذي تلقته فصائل معارضة، خصوصاً القذائف المضادة للدروع. بل عزت العجز أيضاً إلى عدم قدرة التدخل الجوي الروسي عن فعل الكثير في مسرح يميل فيه ميزان القوى البرية المتحاربة لمصلحة الفصائل المعارضة. علماً أن موسكو ترفض الانجرار إلى مزيد من الانخراط. أو تجاوز السقف الزمني الذي حددته لتدخلها.

قراءة أخرى عزت هذا البطء في تحقيق إنجازات إلى حرص الكرملين ربما على حسابات دقيقة. فهو لا يريد إعطاء الرئيس بشار الأسد جرعة كبيرة يستعيد معها تصلبه وتمسكه بالحل العسكري، فيمسك عن التنازلات المطلوبة في وقت يدور البحث أساساً عن دوره في المرحلة الانتقالية وتوقيت رحيله.

وبعيداً عن هاتين القراءتين، بدا واضحاً منذ البداية أن موسكو سعت إلى تحريك المسار السياسي عشية تدخلها العسكري. وليس في حساباتها أنها ستخوض معركة «تحرير» سورية من خصوم النظام ومن الحركات الجهادية. تعرف تماماً أنها لا تملك من القدرات والوسائل لتحقيق ما عجزت عنه قوى التحالف الدولي في العراق وسورية. التسليم بهذه الحقيقة لم يقتصر عليها. واشنطن وشركاؤها الأوروبيون والإقليميون سلموا هم أيضاً. وجاء جلوس جميع المتصارعين إلى طاولة واحدة اعترافاً بهذه الحقيقة. يبقى أن مصير الرئيس الأسد يبقى العقدة أمام فتح باب الصفقة أو الصفقات. لن يلتزم الرئيس بوتين ولن يعطي ضمانات أو تعهدات بتغيير القيادة السورية. لن يسقط شعاره برفض تدخل أية قوة خارجية في شؤون دولة أخرى لقلب نظام الحكم أو إسقاط رئيس. لكنه يدرك تماماً أن النظام سقط من زمن. كما يدرك استحالة بقاء الأسد أو عودته إلى حكم سورية التي لا يكاد يبقى منها شيء، لا بشر ولا حجر وعمران وتراث.

مصير الأسد ونظامه سيكون رهناً بتقدم الحوار على المسار السياسي. مثلما نظام الإقليم وصورته التي ستكون رهن نتائج هذا المسار. المشهد الجيوسياسي يتبدل كلياً. وبترسيخ روسيا أقدام تدخلها، سيتعمق شعور القوى التي تساند النظام بمزيد من الاطمئنان. وستعيد النظر في حساباتها. ستنظر في ما قدمت وما حصدت وستترجم غضبها واستياءها ومراراتها التي تعبر عنها كل يوم. ولن يكون أمامها في المحصلة سوى الابتعاد عن الرئيس إذا ظل عقبة أمام أي حل أو تسوية. والتخلي عنه أياً كانت الصيغة التي سترسو عليها بلاد الشام، من العراق إلى لبنان. مثلما ستؤدي العودة الأميركية إلى العراق إلى نتائج مماثلة وتعميم صيغة الفيديرالية. وحديث الانتلجنسيا الفرنسية والأميركية عن الشرق الأوسط القديم الذي انتهى قديم. الاستعصاء السياسي بين مكونات «الهلال الخصيب» لن يقنع أهل السنة في العراق بالعدول عن إنشاء إقليمهم على غرار كردستان. واستعجال كرد سورية رسم حدود إقليمهم يمهد الطريق أمام أقاليم أخرى لا مفر منها. حتى لبنان العصي والحاضر في فيينا سيلحق بشقيقيه الأكبرين، إلى صيغة لامركزية فضفاضة لم تغب عن صيغة الطائف، لكنها هذه المرة قد تكون أكثر اتساعاً وعمقاً.