Site icon IMLebanon

الأسد إذ يلوّح بهجمات «داعش» لرفض «خريطة» فيينا

أمام واشنطن فرصة لن تتكرّر، من أجل صدقيّتها، لتعلن شيئاً مما تعرفه ومما هو مؤكّد عن دور النظامين السوري والايراني في نشأة تنظيم «داعش» وتسمينه واجتذابه الى سورية وتوظيفه في إفساد انتفاضة الشعب السوري ومن ثمَّ استخدامه مع «جبهة النصرة»، وهي فرع انشقّ «داعش» عنه، لطرح المسألة السورية وكأن النظام كان راعياً صالحاً ووجد نفسه بغتةً في مواجهة مع مجموعات متطرفة همجية تسعى الى تحطيم النموذج الذي بناه للرقي والاعتدال والتقدّم. ولتتخلَّ واشنطن عن اسلوب البرقيات الذي دأبت عليه لتقول بوضوح تام لماذا تعتبر أن بشار الأسد «لا يمكن أن يكون جزءاً من أي حل» ولماذا «لن يكون له دور» في مستقبل سورية. وإذا لم تفعل فإنها ستبقى متهمة بالمشاركة في ظلم الشعب السوري إسوة بمشاركتها الموثّقة في ظلم الشعب الفلسطيني، ومتهمة بالخضوع لابتزاز ايران وبإخفاء الحقائق لحماية صفقات ومصالح متوقعة معها، بل ستتأكّد اتهامات أبواق طهران لها بالكذب والمناورة وبأنها هي التي «ترعى التكفيريين»، والدليل أنها استهلكت عاماً ونصف العام في تمكين «داعش» من التوسّع الى حدّ أن فرنسا تتقارب اليوم مع روسيا لأنها تريد حرباً «جدّية» على «داعش».

وأمام روسيا حالياً فرصة لن تتكرر لتظهير الصورة التي تريد ترسيخها لدى شعوب المنطقة، وإثبات أنها فعلاً دولة كبرى ذات قيم وليست «دولة مافيات» كما يُنظَر اليها، وأنها تريد حقاً – كما تقول – تصحيح النظام العالمي وتنظيفه من الأوبئة والأمراض التي زرعتها فيه سياسات الولايات المتحدة وأخطاؤها. ولكن، كيف لها أن تفعل ذلك، وهي تعلم، مثل أميركا، ظروف نشأة «داعش» وتوحّشه حتى صار تهديداً للسلم العالمي، وكيف تطالب بإشراك نظام الأسد وهي تعلم، مثل اميركا، بأنه وحليفه الايراني استدعياها لمساعدتهما – باسم محاربة الارهاب – بعدما فشلا في اخضاع سورية والاستيلاء عليها خلافاً لإرادة شعبها. واستطراداً، كيف تكون روسيا دولة كبرى اذا كانت مهمتها في سورية مقيّدة بشروط نظام منبوذ يسخّرها في تصفية معارضيه وتوفير حصانة لبقائه في السلطة، أو تجنّد ايران في خدمة مشروعها المذهبي، حتى أن الأسد وحليفه يعملان علناً على إفشال سعي روسيا الى إعادة الاعتبار للجيش، كما أحبطا ميدانياً جهدها لتحقيق هدنة في الغوطة الشرقية لدمشق بين قوات النظام و «الجيش السوري الحرّ».

على قاعدة تفاهماتهما غير المعلنة، تتبادل أميركا وروسيا الضغوط حالياً تحت عنوان «مصير الأسد»، وتتوقع كلٌّ منهما أن تتنازل الاخرى أولاً بحكم الإحراج والضرورة. تتظاهر اميركا بأنها أكثر مسؤولية حين يقول باراك اوباما أنه لا يتصوّر نهاية للأزمة السورية «مع بقاء الاسد في السلطة»، وتردّ روسيا بأن المسؤولية الدولية تنحصر الآن بالقضاء على تنظيم «داعش» وأن هذه الأولوية تتطلّب التعاون مع الأسد ونظامه. كانت اميركا عبّرت أكثر من مرّة عن استعدادها لقبول بقاء الاسد في بداية عملية انتقالية لكن وفقاً لشروط تضمن قبوله هذه العملية وتسهيلها، وخاضت نقاشاً مع حلفائها لاقناعهم بأن هذه هي الصيغة الوحيدة لحمل روسيا على تحريك موقفها، ولم يوافق الاوروبيون إلا بعد اشتداد موجات الهجرة واجتياحها بلدانهم، ولم يعط العرب والاتراك سوى موافقة مشروطة بضمانات. وبناء على ذلك تقبّلت واشنطن التدخل الروسي، أولاً لأن الحاجة مسّت الى تدخل خارجي قادر على التأثير في خيارات النظام، لأن هذه الوسيلة تتيح اختبار نيات روسيا وقدراتها، والأهم ثالثاً لأن الولايات المتحدة نفسها استبعدت منذ البداية كل احتمال للتدخل المباشر في سورية…

لعل اختبار قدرات روسيا بلغ ذروته عندما استُدعي الأسد الى الكرملين، وبعد يومين جاء سيرغي لافروف الى فيينا لإبلاغ نظرائه الاميركي والسعودي والتركي بأن لدى موسكو معطيات جديدة تصلح لإطلاق تشاور دولي ووضع خريطة طريق لحلّ الأزمة، لكن ينبغي أن تُدعى ايران، فكان الاجتماعان الموسّعان في فيينا، ثم كانت «الخريطة» غداة الهجمات الارهابية في باريس. وفي مقابل صياغة غامضة أصرّت عليها روسيا في ما يتعلّق بـ «مصير الأسد» وكذلك بالنسبة الى تفسير بيان «جنيف 1» (رغم النص على أنه ركيزة الحلّ)، عُهد الى السعودية عقد مؤتمر في الرياض لتشكيل وفد يمثّل كل أطياف المعارضة (مع أخذ الآراء الاميركية والروسية في الاعتبار) ليتولّى التفاوض مع النظام، وطُلب من الأردن اجراء مشاورات استخباراتية لإعداد قائمة بالتنظيمات الإرهابية التي ستُصنّف بأنها خارج العملية السياسية، وبالتالي ستعتبرها الأطراف الدولية أهدافاً في «الحرب الشاملة» المرتقبة على الارهاب.

لم تكن هذه «الخريطة» والترتيبات المرافقة لها لترضي ايران، حتى لو كان عدد من «عملائها» المعروفين مرشحين على لوائح واشنطن وموسكو للانضمام الى وفد المعارضة. كما أن الدخول في فرز الفصائل المقاتلة للتمييز بين الارهابي والمعارض من شأنه أن ينسف استراتيجية الأسد وطهران التي قامت أساساً على تصنيف كل من يقاتلهما كـ «ارهابي» أو «تكفيري»، أي أنهما أصبحا في طريقهما الى خسارة «ورقة الارهاب» التي لعباها طويلاً في مقارعة الاميركيين في العراق ثم في ادارة الأزمة السورية، فضلاً عن أن ايران استخدمتها في توجيه تعامل نوري المالكي مع سنّة العراق. أكثر من ذلك، لم يكن خافياً أن الصياغة العامة لـ «الخريطة» بنيت على مفهوم «الانتقال» بالحكم السوري من حال الى حال، وهو أمر يرفضه الأسد تمسّكاً بالسلطة ويرفضه الايرانيون تشبّثاً بمشروعهم.

كانت طهران أحيطت علماً بما سمعه الأسد من فلاديمير بوتين، ثم استشعرت منذ مشاركتها في الاجتماع الأول في فيينا أن هذا الحشد من الدول يعرقل مناوراتها وينذر بمسار غير مريح لها، وهي الموجودة في عمق الأزمة التي يتداول بها الآخرون، بل هي التي صنعتها وأجّجت نارها وتنتظر قطف ثمارها. والواقع أن ايران اصطدمت بجوٍّ سياسي سائد في فيينا، قوامه الإصرار على مواصلة العمل مع كثرة الخلافات على أكثر من جانب في الملف. لذلك راحت تكثر النقد من خارج الاجتماع، بغية تغيير منهجه، سواء بلسان المرشد علي خامنئي أو عبر قادة في «الحرس الثوري»، تارة بالجهر بخيبة الأمل من روسيا وتارةً اخرى بمهاجمة «التدخلات الخارجية» في التسوية السياسية في سورية، باعتبار أن تدخلها وروسيا داخليٌ وليس خارجياً. المهم أن طهران كانت ترغب في حدثٍ ما يمكن أن يقلب الطاولة.

هنا حصلت هجمات «داعش» في باريس… هي مصادفةٌ أم تدبير؟ لا فرق، اذ كادت تطيح اجتماع فيينا أو تعرقل اقرار «خريطة» الحل، لكن هذين التوقّعَين خابا. وعندما أكّدت موسكو أن ما أسقط الطائرة في سيناء كان عملاً ارهابياً استُخدمت الهجمات لإعادة الأزمة السورية الى «المربّع الارهابي» الذي وضعها فيه الاسد. وها هو رئيس النظام نفسه يعلن في مقابلة تلفزيونية أنه «لا يمكن تحديد جدول زمني للمرحلة الانتقالية قبل إلحاق الهزيمة بالإرهاب»، وتبعه فوراً ممثل «الحرس» في الخارجية الايرانية حسين أمير عبد اللهيان معتبراً أن الحل السياسي «لن يفضي الى نتيجة من دون التصدّي الجاد للارهاب». كان واضحاً أن الأسد استند الى هجمات باريس ليخاطب الدول الغربية المشاركة في فيينا بمنحى ابتزازي، مفاده أنه يرفض «الخريطة»، وأن الأولوية يجب أن تتجه الى القضاء على الارهاب. لم يكن لهجمات «داعش» أي مغزى آخر غير القتل والإجرام، لكن التنظيم قدّم خدمة اخرى للأسد ونظامه وكذلك لإيران. لا شك في أن ثنائية الاسد – «داعش» باتت أقرب الى «طالبان» – «القاعدة» منها الى وضع نيجيريا إزاء «بوكو حرام».