أثار سيل العنف الذي أطلقه الرئيس السوري بشار الأسد وعملاؤه ضد شعبه منذ عام 2011 ـ من أعمال خطف على نطاق واسع وتعذيب وهجمات بالقنابل المتفجرة والأسلحة الكيماوية ـ مناقشات لا تحمل في طياتها كثيراً من الأمل حول ضرورة مثول الأسد أمام العدالة لمعاقبته عن المذابح التي اقترفها. بيد أن الحقيقة٬ أن الولايات المتحدة وموقفها إزاء المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ساعد في خلق الكثير من المعوقات أمام محاكمة الأسد.
جدير بالذكر٬ أن المحكمة الجنائية الدولية٬ وهي محكمة دائمة للنظر في جرائم الحرب٬ تأسست عبر مفاوضات جرت بين غالبية أعضاء الأمم المتحدة في أواخر تسعينات القرن الماضي٬ اضطلعت الولايات المتحدة خلالها بدور رائد.
ومنذ محاكمات نورنبرغ بعد الحرب العالمية الثانية٬ ظهر إجماع عالمي حول أن عقد محاكمات علنية بخصوص الاتهامات بارتكاب جرائم حرب ومعاقبة المسؤولين عنها٬ أمر لا غنى عنه لإرساء قواعد سلام دائم داخل أي منطقة صراع؛ وذلك لأن العدالة النزيهة تمّكن الناجين من التحرك قدماً دون الإبقاء على مشاعر سخط ربما تستمر أجيالاً بخصوص فظائع لم يجرِ التعامل معها.
بحلول نهاية عام ٬2000 وقعت الولايات المتحدة و138 دولة على المعاهدة الدولية٬ التي أطلق عليها ميثاق روما٬ والذي قضى بإنشاء المحكمة. لاحقاً في مايو (أيار) 2002 ، أعلنت إدارة جورج دبليو بوش٬ أنها «تسحب توقيعها» على المعاهدة٬ وتنسحب من الالتزامات الأميركية في إطارها.
وقد ظهرت كثير من الحجج الداعمة لرفض الانضمام إلى المعاهدة٬ يمكن تفهم بعضها٬ ربما يكون أكثرها قوة أنه ما من دولة أكثر احتمالاً عن الولايات المتحدة للمشاركة في أدوار حفظ السلام بمختلف أرجاء العالم. وعليه٬ فإن احتمالات إقدامنا على الاضطلاع بهذا الدور ستتراجع إذا ما واجه الجنود الأميركيون مخاطرة التعرض لمحاكمة ذات طابع سياسي أمام محكمة جنائية تبعد آلاف الأميال عن الأرضي الأميركية٬ وتتبع إجراءات تختلف كلية عن الإجراءات القانونية داخل الولايات المتحدة.
من جانبه٬ مرر الكونغرس عام 2002 قانون حماية الجنود الأميركيين٬ الذي خّول للرئيس سلطة إصدار الأمر بإجراء عمل عسكري لتحرير أي أفراد عسكريين من المنتظر مثولهم أمام المحكمة الجنائية الدولية. وقوبلت هذه الخطوة بانتقادات ساخرة داخل دول أوروبية غربية باعتبارها تشكل «قانون غزو لاهاي». ومع ذلك٬ مضت الولايات المتحدة في ممارسة ضغوط دبلوماسية على دول أخرى٬ بينها العراق٬ حيث يقاتل جنود أميركيون٬ للامتناع عن المشاركة في المحكمة.
وساعد هذا التحول بالموقف الأميركي في تقييد المحكمة الجنائية الدولية؛ ذلك أن دولاً مارقة٬ نجحت في تجنب التعرض لضغوط من المجتمع العالمي من خلال التذرع بالموقف الأميركي. الأهم من ذلك بكثير٬ أن النموذج الأميركي يسري على دول أخرى وقّعت بالفعل على ميثاق روما٬ والامتناع نهاية الأمر عن التصديق عليها. والملاحظ أن الكثير من هذه الدول غالباً ما أثارت تصرفاتها اتهامات لها بانتهاك القانون الدولي: إيران وإسرائيل وروسيا٬ والأهم سوريا.
وعليه٬ لم يعد للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على سوريا والأسد. ورغم أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا يزال قادراً على تحويل القضية إلى المحكمة الدولية٬
فإن حليفة سوريا٬ روسيا٬ تملك حق النقض (الفيتو) ونجحت بالفعل حتى الآن في إحباط جميع الجهود الرامية لمحاسبة الأسد وآخرين. من جهتها٬ كلفت الأمم المتحدة كيانين مختلفين بجمع أدلة حول المذابح التي ترتكب داخل سوريا٬ لكن الكيانين يفتقران إلى أي مؤسسة لعرض هذه الأدلة عليها. وسبق أن أعلن الأسد ومسؤولون بإدارته أنهم «لا يهتمون» بجهود الأمم المتحدة على هذا الصعيد.
وإذا كان رفض الولايات المتحدة التصديق على ميثاق روما يخدم المصالح الوطنية الأميركية حقاً٬ فإنه يمكن التساهل حياله٬ حتى وإن ترتب عليه توفير ملاذ لشخص مثل الأسد. بيد أنه في واقع الأمر يعتمد تردد واشنطن على هذا الصعيد على مجموعة متنوعة من الافتراضات لا تصمد أمام التفحص الموضوعي. في الواقع٬ إن المحققين الأجانب لن يزحفوا على الولايات المتحدة من كل حدب وصوب في محاولة لسجن جنودنا؛ ذلك أن الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية تكميلية؛ ما يعني أنها لا تنتهك سيادتنا ولا تحل محل نظامنا القضائي. إن المحكمة تتحرك فقط عندما ترفض الدولة المعنية ذلك.
ويتعذر على المرء تخيل أن تمر اتهامات بتورط جنود أميركيين في جرائم حرب خطيرة دونما تحقيق من قبل البنتاغون٬ بمجرد أن يجري تسليط الضوء عليها. ولنا في الاستجابة القوية للتصرفات التي ارتكبها الجنود الأميركيون داخل سجن أبو غريب ببغداد خير دليل. علاوة على ذلك٬ فإنه إذا كانت عضوية المحكمة الجنائية الدولية عززت الحاجة إلى إجراء تحقيقات٬ وإذا دعت الحاجة إلى محاكمة أميركيين بهدف الحيلولة دون تدخل المحكمة٬ فإن هذا ينبغي النظر إليه بصفته تطوراً إيجابياً يسهم في التغلب على ميل المؤسسة العسكرية٬ مثلما الحال مع مؤسسات أخرى٬ للعمل على حماية أفرادها والتمويه على الأمور السلبية.
علاوة على ذلك٬ فإن الواقع القائم يؤكد أنه حال إجراء المحكمة الجنائية الدولية محاكمة لأميركيين رأينا فيها تحيزاً أو فساداً٬ فإن بمقدورنا حينذاك الانسحاب من المعاهدة٬ وبخاصة أنه ليس ثمة دولة على وجه الأرض لديها القوة الكافية لإجبار واشنطن على الاستمرار في عضوية المحكمة. حقيقة الأمر٬ أن الولايات المتحدة ستتحرك انطلاقاً من موقف أخلاقي قوي إذا ما أعربت عن اعتراضات منطقية تجاه قضية بعينها٬ بدلاً عن التشبث بموقفنا الراهن الذي يسمح للأميركيين باقتراف جرائم ضد الإنسانية دون إبداء حكومتنا استعدادها للالتزام رسمياً بالاستجابة لذلك.
الواضح أن جهود الولايات المتحدة ودول أخرى تمكنت من إلحاق ضعف بالغ بالمحكمة. وفي خضم محاولاتها الحفاظ على كيان هش٬ وجدت المحكمة الجنائية الدولية نفسها منغمسة بشدة في إجراءات جنائية مركبة؛ وذلك لأنها رأت أن الدفاع الوحيد في مواجهة الاتهامات الموجهة إليها بالتحرك بنا ًء على دوافع سياسية يكمن في الالتزام الصارم بقواعدها.
ويعني ذلك أن التحقيقات تستمر سنوات طويلة٬ بينما تسبب غياب الدعم من جانب الولايات المتحدة ودول أخرى قوية مثل روسيا والصين٬ في ترك المحكمة دون قوة حقيقية في مواجهة المقاومة التي تجابهها. على سبيل المثال٬ تخضع روسيا للتحقيق منذ عام 2008 عن التصرفات التي ارتكبتها أثناء غزوها جورجيا.
وعلى مدار 13 عاماً٬ لم يجرِ توجيه اتهامات سوى إلى 33 شخصاً فقط٬ أدين منهم ثمانية فحسب. الأسوأ من ذلك أن المتهمين الـ33 جميعاً ينتمون إلى أفريقيا؛ ما جعل المحكمة مادة للسخرية داخل القارة باعتبارها أداة في يد الإمبريالية الغربية٬ رغم بشاعة الاتهامات التي تجري حولها التحقيقات والتي لا يمكن أبداً تجاهلها من جانب أي محقق مسؤول.
واليوم٬ ليس بمقدور الولايات المتحدة انتقاد المحكمة بسبب ما تعانيه من افتقار إلى الفاعلية في وقت بذلنا نحن أقصى جهودنا لنضمن حدوث ذلك. وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للشعور بالصدمة حيال الرفض الأميركي للمشاركة في المحكمة أنه يقوض سياساتنا وادعاءاتنا المستمر بأننا القائد الأخلاقي للعالم.