IMLebanon

«الأسد إلى الأبد»… من دمشق وحلب إلى شارلوتسفيل

شارك الأميركي جيمس أليكس، مرتكب عملية الدهس ضد المتظاهرين المناوئين للعنصرية في فيرجينيا، الملايين حول العالم الذين يضعون رئيس النظام السوري بشار الأسد الى جانب أدولف هتلر وغيره من خانة الطغاة الدمويين، لكن هذا الأميركي النازي الجديد يستلهم هؤلاء الطغاة ويُشهر إعجابه بهم، تماماً كمواطنه ديفيد ديوك القائد السابق لحركة «كلو كلوكس كلان» المدافعة عن «تفوّق البيض» الذي كتب في تغريدة: «الأسد يحلّ مشاكل – الموت لداعش وجميع داعميه. هل من مشكلة لأميركا في ذلك؟»… قد لا تكون لأميركا مشكلة مع «الموت لداعش» لكن يتبيّن أن لديها بالتأكيد مشكلة مع «داعميه» أو بالأحرى صانعيه، لأن «دواعش» شارلوتسفيل البيض بدوا أكثر شفافية من «دواعش» الرقة ودير الزور في إظهار مَن يلهمهم. وكما لو أن المصائب تستدرج المصطلحات نفسها في أي مكان، فإن حاكم ولاية فيرجينيا اعتبر النازيين الجدد «دخلاء» وخاطبهم بقوله: «لا مكان لكم هنا. لا مكان لكم في أميركا». وفي ذلك تذكير بموقف أميركي متكرر مفاده بأن «لا مكان للأسد ولا لعائلته في مستقبل سورية».

غداة الاضطرابات والمواجهات في الشارع بين أميركيين وأميركيين، كان الوسط السياسي مجمعاً على أن ردّ فعل دونالد ترامب لم يكن بمستوى خطورة الحدث. دُعي الى «تسمية الشرّ شرّاً»، وقيل له: «هؤلاء عنصريون بيض وهذا إرهاب داخلي» (السناتور الجمهوري كوري غاردنر)، وقيل أيضاً إننا «لم نحارب هتلر لكي ترتع الأفكار النازية هنا في الوطن من دون أن يتصدّى لها أحد». لكن الأمر بالنسبة الى ترامب، الذي ساوى بين العنصريين والمحتجّين ضدّهم، يُختصَر بأن لهؤلاء القوميين والعنصريين البيض فضلاً في انتخابه رئيساً وأنهم قاعدته الشعبية الصلبة التي تتململ من التلكؤ في تنفيذ السياسات المتطرّفة التي حدّدها خلال حملته، حتى أن تداولها هاشتاغ (#ترامبروسيا) يبطن إعجاباً بفلاديمير بوتين بمقدار ما يستنكر التحقيقات التي تكبّل ترامب وتعوّق انطلاقته. ولعل الترويج لصورة الأسد باللباس العسكري مع التعليق «الذي لا يُهزَم» يشير الى «القدوة» المبتغاة التي كان ترامب جنّبها أي انتقاد خلال حملته، لكنها تتناقض كلّياً مع الأوصاف المقذعة (ومنها «هذا حيوان») التي استخدمها ترامب لاحقاً في الحديث عن رئيس النظام السوري غداة الهجوم الكيماوي على خان شيخون. ربما تنبهه قاعدته الآن الى أن الأسد (أو بوتين، أو علي خامنئي) فعل ما يلزم!

قد لا يكون هناك توافقٌ تامٌ بين سياسات روسيا وإيران وأميركا – ترامب وسورية – النظام، إلا أن شعارات العنصريين الأميركيين في القاعدة الترامبية تؤشّر الى تماهٍ في نقطة واحدة على الأقل: العداء للعرب والمسلمين، وقد يقال لـ «الإسلاميين» بمعنى «الجهاديين»، ثم يتولّى التعميم والتبسيط دمج أولئك جميعاً تحت سقف واحد: الإرهاب. ومع أن ترامب أطلق عهده باحتضان مفرط لزمرة التطرّف في حكومة إسرائيل، إلا أن قوميي قاعدته وعنصرييها يتناقضون معه بـ «العداء لإسرائيل» أو «للسامية» وفقاً للمصطلح الإسرائيلي، ويلتقون مع الأسد وخامنئي ظناً بأنهما معاديان فعلاً لإسرائيل. والحال أن أحد أهم الدوافع لمنع إسقاط الأسد، وتالياً لترويج الإبقاء عليه، كان ولا يزال تأييد إسرائيل استمراره، بل التقاءها مع إيران على أن مصالحهما (مع روسيا وأميركا)، وليس مصلحة سورية، تقضي باستمرار الأسد في منصبه.

أسدى «دواعش» الرقّة ودير الزور للأسد خدمة العمر، فهو والإيرانيون سهّلوا وجودهم وأرشدوهم الى المواقع المناسبة لتخريب الانتفاضة الشعبية السورية داخل مناطقها ومن ثمّ دمغها بـ «الإرهاب»، حتى قبل انتشارهم غداة سيطرتهم على الموصل. وها هم «دواعش» فيرجينيا يقدمون الى الأسد خدمة عظيمة في لحظة مفصلية، إذ يلتقون مع حلفائه وأعدائه وهم موشكون على التوافق نهائياً على بقائه في السلطة، بغض النظر عن أي قيم قانونية أو سياسية أو حتى إنسانية. إذاً فقد أصبحت سورية الساحة الخارجية الوحيدة التي يلبّي فيها ترامب «طموحات» ناخبيه القوميين والعنصريين، والمكان الوحيد في العالم الذي قرر الأميركيون والروس أن يتعاونوا فيه، متجاوزين استعصاءات قضيتَي التدخل الروسي في الانتخابات واتصالات معاوني ترامب مع عملاء بوتين. بل إنها المكان الذي أتاح فيه نظام الأسد هبوط طائرات الشحن الإيرانية محمّلة الصواريخ والأسلحة ومساحة شاسعة لمستودعات تخزينها، وهي أيضاً المكان الذي منح فيه الروس ترخيصاً لإسرائيل كي تضرب مواقع الإيرانيين وأتباعهم، وإذ كانت الطائرات الإسرائيلية تغير ليلاً أو فجراً ابتغاء التمويه والسرّية فقد أصبحت تقصف في أي وقت وأمكن دمشقيين كثيرين أن يصوّروا نحو الثانية بعد ظهر الأربعاء (01/08/2017) دخان غارة على موقع الغزلانية المحاذي لمطار العسكري القريب من دمشق، وأن يرسلوها الى أصدقائهم في الخارج مع ملاحظة: «غارة إسرائيلية عالإيرانيين بالشام. صارت اعتيادية».

هذه الغارات لم تمنع الإيرانيين من متابعة خططهم، بل إنهم تعايشوا معها وابتكروا أساليب لخداع المخبرين الذين يبلغون إسرائيل عن وصول شحنات أسلحة جديدة وعن مواعيد نقل معدّات الى «حزب الله» في لبنان. والاعتقاد السائد أن إسرائيل لم تعد تستطيع تقليص الدور الإيراني الذي بات مدمجاً بدور النظام نفسه، تحديداً في النشاط العسكري، لكنها تحاول فقط حصره في نطاق جغرافي لا يزعجها، وقد مكّنتها مشاركتها في هندسة اتفاق جنوب غربي سورية من إبعاد الإيرانيين الى حدود دمشق. بموازاة ذلك، أدّى اتفاق «خفض التصعيد» في الغوطة الشرقية، كما يلاحظ الدمشقيون، الى حضور أكبر للشرطة الروسية في العاصمة. وعلى رغم تعاظم التدخّلات وعجز النظام عن التأثير في تقطيع خريطة الجبهات فإن عسكرييه لم يعودوا قلقين، بل يردّدون أنهم صاروا أخيراً متأكدين من أنهم «نجحوا» في تحقيق هدفهم، بدليل أن الجميع يتحدث عن ضرب الإرهاب ويعتبره الأولوية. والأهم أن أطرافاً كثيرة أحيت الاتصالات عبر الأجهزة أو طلبت إقامة قنوات خلفية مع النظام.

وراء الستار تدور منافسات بين العواصم الأوروبية وعلى استرضاء روسيا وحتى إيران، فالكل يريد صفقات مع طهران ولا يمانع مسايرتها في مصير الأسد، والكل يتطلّع الى حصص في ورشة إعادة الإعمار ويعلم أن موسكو باتت مهيمنة على الملف. وبالتالي، فالكل يتصرّف على أن الصراع الداخلي قد حُسم، وبما أن تفويضاً أميركياً مُنح عملياً الى روسيا المتشبثة بالأسد، فهذا يبرر للرئيس الفرنسي أن يجامل بوتين بإطلاق رسالة اعتراف بـ «شرعية» الأسد، فباريس تريد أن تحيي مصالح كانت لها في سورية، وليس أفضل من رئيس لا ديغولي ولا اشتراكي لتجاوز الاعتبارات الأخلاقية السياسية. ومع أن الأميركيين عارضوا بشدّة، في اجتماع عقد في بروكسيل، اقتراحات أوروبية بإعادة فتح السفارات في دمشق باعتبار أن إغلاقها «كان خطأً» إلا أن إعادة تأهيل السفارة الفرنسية بوشرت فعلاً. قبل ذلك، كانت ألمانيا ولا تزال سبّاقة الى تنشيط اتصالاتها مع النظام على مستويات متعدّدة، والنمسا أيضاً، كذلك إيطاليا التي ستتمثّل في معرض دمشق الدولي. الدول تعتمد على رجال أعمال، وقد غدا أحد المهرّبين المعروفين الطفل المدلّل في عواصم كثيرة، فبعدما كان صلة الوصل لسمسرة تجارة النفط والقمح بين «داعش» والنظام وبين «داعش» والأتراك، ارتقى بسرعة ليصبح عراب فك التجميد عن أرصدة للنظام في أحد البنوك الأوروبية بشرط ضمانه صفقة قمح بـ150 مليون يورو. وأخيراً، بات هذا المهرّب يكلّف بنقل رسائل وأدوار سياسية.

في غضون ذلك، تستعد كارلا ديل بونتي للاستقالة من «لجنة التحقيق الدولية حول سورية» التابعة للأمم المتحدة. سبق أن قالت عن الأسد إنه «واحد من أسوأ المجرمين في التاريخ»، وتقول الآن إن لديها أدلّة كافية لإدانته، لكنها محبطة لأن عملها بات «غطاء لمجتمع دولي لا يقوم بشيء على الإطلاق»، فلجنة التحقيق قامت بعملها ولديها اتهامات للنظام والمعارضين لكن يتعيّن إنشاء محكمة خاصة لمجرمي الحرب و «هذا تحديداً ما تمنع روسيا حصوله» باستخدامها «الفيتو» في مجلس الأمن. أما خلاصتها فهي أن العدالة ممنوعة في سورية و «من دون عدالة لن يكون سلامٌ أبداً، وبالتالي فلا مستقبل»….