عندما أعلنت موسكو عن تحرير مدينة حلب وضواحيها من سلطة الميليشيات المعارضة، سارع الرئيس بشار الأسد إلى إعلان استعداده للانتقال إلى المدينة المحررة، وإلقاء خطاب النصر في الجماهير الصامدة. وتدخل في حينه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لينصحه بعدم الإقدام على مغامرة محفوفة بالأخطار، خصوصاً أن تنظيف المدينة من خصوم النظام لم يكن قد استُكمل بعد. وعلى ضوء تلك الاعتبارات، أخذ الأسد بنصيحة حليفه بوتين خشية التعرض لمحاولة اغتيال.
ويبدو أن الأسد كان قد تعهد لبوتين بألا يقدم على أي تحرك مفاجىء ربما يستفز تركيا، أو ربما يعرقل مسيرة التسوية السلمية التي يشرف على إعدادها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا.
والثابت أن تركيا ساهمت في تحقيق الانتصار الروسي بواسطة عناصرها التي انسحبت من حلب خلال مرحلة التحضير للهجوم الكاسح. كذلك قامت قواتها البرية بإقفال كل المعابر الشمالية، بحيث منعت وصول الذخائر والمساعدات العسكرية إلى الفصائل المقاتلة في الداخل.
من المؤكد أن إيران لم تكن مرتاحة إلى تفرد روسيا بإعلان نصر باركه مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي أقلق بشار الأسد، ودفعه الى إرسال وزير خارجيته وليد المعلم إلى طهران، يرافقه اللواء علي المملوك، رئيس مكتب الأمن القومي. وكان الغرض من وراء تلك الزيارة المستعجلة طمأنة إيران إلى ثبات موقعها المميز لدى نظام الأسد، كونها دشنت علاقة التعاون والانفتاح عقب سقوط الشاه وانتصار الثورة الخمينية (1979). ومنذ ذلك الحين، تطورت تلك العلاقة في عهد حافظ الأسد، ثم اتسعت آفاقها في شكل غير مسبوق في عهد نجله بشار الذي عوّض خسارة صداقة تركيا والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة بإدخال إيران في شؤون سورية السياسية والاقتصادية والأمنية.
وفي تحليل كتبه معارض سوري في صحيفة خليجية، شبّه الرئيس بشار الأسد بأبي العلاء المعري الذي عُرِف بلقب «رهين المحبسَيْن». وقال إنه مدين لبقائه في الحكم لدولتين جعلتاه رهينة لمصالحهما المتضاربة. لذلك اضطر للاعتماد على محطة تلفزيونية يابانية من أجل إظهار وجهة نظره من أعمال مؤتمر آستانة. أي المؤتمر الذي سعت روسيا إلى جعله منبراً سياسياً تطل من فوقه على مشهد المصالحة بين النظام وأطراف المعارضة، في حين فشلت الدول الغربية في إيجاد تسوية مقبولة.
وكان واضحاً من طبيعة المساجلة التصادمية التي دارت فوق صفحات الجرائد بين بشار الأسد ووزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أن الرئيس السوري لا يجاري موسكو في رهاناتها. والدليل أنه اعتبر الفصائل العسكرية المعارضة المشاركة في مؤتمر آستانة «إرهابية». وقد عارضه لافروف على شاشات التلفزيون، مؤكداً له أن الفصائل المشاركة في الحوار غير مدرجة على لائحة الأمم المتحدة للجماعات الإرهابية. وانضم إلى موقف لافروف أستاذ العلاقات الدولية في جامعة موسكو ليونيد سوكيانين، ليقول إن بلاده لا يمكن أن تدعو إلى المحادثات جماعات إرهابية.
وتبين من طبيعة المخالفات التي ارتكبتها القوات الإيرانية في سورية أن طهران لم تكن راضية عن محاورة هذه الفصائل، وأنها كانت تعوّل على القوة الجوية الروسية في قهر كل أطراف المعارضة. والثابت أن بشار الأسد كان يشاركها في هذا الخيار، بدليل أنه انتقد بشدّة أهداف المؤتمر، لأنه في نظره يؤشر إلى مزيد من التعاون الوثيق بين موسكو وأنقرة.
ومثل هذا التعاون يمهد لتهميش دور إيران، ويهيىء الفرصة لتحجيم دور بشار الأسد قبل إخراجه من الحلبة السياسية نهائياً. لذلك عبّر عن رفضه لهذه النهاية، واختار وسيلة إعلام فرنسية لمهاجمة رجب طيب أردوغان الذي تعاون مع فلاديمير بوتين في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار قبل محادثات آستانة. وفي حديثه، وصف الأسد تركيا بأنها «بلد غير مستقر بسبب سياسة رئيسها الإسلامي المتشدد». وقال عنه أيضاً إنه ينتهك الديموقراطية، وإن في سجون بلاده معتقلين سياسيين أكثر من كامل المعتقلين في سجون الدول العربية!
وترى الصحف الفرنسية أن الأسد كان يعبر في انتقاداته عن مشاعره الشخصية من جهة… وعن موقف قادة الحكم في طهران، من جهة ثانية. وأكبر دليل على ذلك ما جاء على لسان الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني. ذلك أنه حذّر من أخطار الهدنة، كونها تمنح المعارضة المسلحة في سورية فرصة تجميع قواتها واستئناف القتال من جديد.
ويشير المراسلون في سورية إلى احتمال تفاقم الخلاف داخل مثلث موسكو – أنقرة – طهران. والشاهد على ذلك أن الطيران الحربي الروسي كان يغطي كل العمليات البرية التي انطلقت تحت شعار «درع الفرات» شمال سورية. في حين كان من المفروض أن تعتمد تركيا – العضو في حلف الناتو – على دعم القوة الجوية الأميركية التي تعمل في سماء سورية. وجاء على لسان الناطق الرسمي باسم البنتاغون أن سلاح الجو الأميركي لم يتلقّ أي طلب من أنقرة. وهذا ما تراه واشنطن كتوطئة وتهيؤ لانسحاب تركيا من الحلف الأطلسي الذي تأسس في ربيع سنة 1949.
وترى روسيا في خروج تركيا من الحلف الأطلسي نهاية أكبر تجمع عسكري غربي أقامته الولايات المتحدة مع الدول الأوروبية، من أجل وقف تمدد الاتحاد السوفياتي سابقاً.
وكانت تركيا تُعتبر دائماً ركناً أساسياً من أركان تحالف يضم 28 دولة. وقد اعتمدت الولايات المتحدة على قربها من روسيا لكي تحول قاعدة «انجرليك» إلى منصة انطلاق لطائرات التجسس، إضافة إلى زرع صواريخ موجهة نحو المدن الروسية على طول الحدود. ولم تكن أزمة كوبا النووية سوى غطاء نشره خروتشيف على حدود أميركا، لكي يفرض على جون كينيدي سحب صواريخه من تركيا. وهذا ما آلت إليه التسوية النهائية.
من هنا القول إن نجاح بوتين في سحب تركيا من الحلف الأطلسي لا يقل أهمية عن وصوله إلى المياه الدافئة في المتوسط عبر سورية.
على ضوء هذه الخلفية، وجد الرئيس بشار الأسد نفسه مضطراً إلى إظهار موقفه في شكل علني، وإبراز انحيازه إلى حليف والده، أي إلى «الجمهورية الإسلامية الإيرانية». لذلك أرسل رئيس الوزراء عماد خميس إلى طهران حيث وقّع عقود عدة، حصلت ايران بموجبها على رخصة تشغيل الهاتف الخلوي وعقد استخراج الفوسفات. وذكرت وكالة «سانا» أن دمشق ستعطي إيران خمسة آلاف هكتار من الأراضي الزراعية، وألف هكتار من أجل إنشاء مرافىء للنفط والغاز. وبعد تحرير مدينة حلب، أبدت طهران اهتماماً خاصاً بمساعدة سورية على إعادة بناء المطارات والطرق ومحطات الكهرباء والموانىء.
ويقدر العسكريون أن «الحرس الثوري الإيراني» فقد ما لا يقل عن ألف مقاتل خلال السنتين الأخيرتين.
ولكن «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» أصدر بياناً هاجم فيه النظام، متهماً الأسد بأنه يكافىء قوة احتلال مقابل مشاركتها في سفك دماء السوريين.
يوم الثلثاء الماضي، نشرت «منظمة العفو الدولية» تقريراً أمنياً حول ارتكابات نفذها النظام السوري بـ13 ألف متهم خلال أربع سنوات في سجن صيدنايا.
وكان بشار الأسد قد أمر بنقل المعتقلين السياسيين من سجني تدمر والمزة، اللذين استخدمتهما الأجهزة الأمنية في عهد والده. ومع أن منطقة صيدنايا تضم أهم دير تاريخي لطائفة الروم الأرثوذكس، إلا أن قداسة المكان لم تبدل من سلوك المولجين بتعذيب المتهمين.
وكان من الطبيعي أن تثير تلك الحملة الإعلامية ضد النظام السوري أسئلة محيرة تتعلق بتوقيت نشر الخبر، ومدى تأثيره في سير المفاوضات التي ستعقد في جنيف يوم العشرين من الشهر الجاري.
ومن المتوقع أن يعقد لقاء تمهيدي بين الوزير الروسي لافروف ونظيره الأميركي ريكس تيليرسون قبل يومين من افتتاح مفاوضات جنيف.
وفي هذا السياق، أعلن الرئيس بشار الأسد لوكالة الأنباء السورية (سانا) أنه يتوقع من الرئيس الأميركي دونالد ترامب إعطاء الأولوية لقتال الإسلاميين المتشددين، وعلى رأسهم تنظيم «داعش».
بقي أن نذكر أن الفضيحة السياسية التي فجرها المصور السوري المدعو «قيصر» قبل انعقاد قمة جنيف الثانية (2014) كان الغرض منها تشويه سمعة الأسد ومنعه من تحقيق مكاسب إعلامية، أظهرت الصور المعروضة أنه لا يستحقها.
ويدّعي أنصار الأسد أن غاية الحملة هذا الأسبوع لا تختلف كثيراً عن حملة «قيصر»، مع فارق واحد هو أن الأمم المتحدة والأسرة الدولية لم تتوقفا عن اتهام الأسد بأنه مسؤول عن مقتل أربعمئة ألف بريء، وتهجير أكثر من سبعة ملايين مواطن.
وهذا ما ستحمله عناصر المعارضة إلى مؤتمر جنيف.