IMLebanon

الأسد خط أحمر.. التفاوض وشاح أسود

أيكون التفاوض على جثة أم على أمة أو وطن؟ خمسة أعوام فاضت قتلاً وتوحشاً. لا براءة لأحد في هذه المقتلة. المفاضلة الوحيدة المنطقية هي بين جحيم هذا وجهنم ذاك. ليس بوسع أحد الادعاء بقوته. القوى المستعارة والمضافة في أرض المعركة ليست سوريّة ولا من سوريا. القول الفصل للقوى الخارجية. الوقود العسكري البشري أكثره من الداخل. ما تبقى من سوريا هو بقايا: بقايا شعب أو شعوب، بقايا ميليشيات وعسكريتاريا، بقايا أرض أو أراضٍ، بقايا مدن وبلدات وقرى وساحات، بقايا آثار دارسة وحضارات إنسانية راقية وقديمة، بقايا مآسٍ وفجائع وضحايا، أو بقايا أشلاء… أيكون التفاوض على أشلاء أمة أم على وطن ممكن بعناية دولية وإقليمية ومحلية؟

مَن يراقب تصريحات المعارضة (المعارضات) يظنّ أنها على قاب قوسين من الانتصار، وأنها ذاهبة إلى جنيف لفرض شروطها المبرمة، أولها، الشرط المستعصي: مصير الرئيس السوري بشار الأسد. ومَن يستمع إلى ما صرَّح به الوزير وليد المعلم، يظنّ أن النظام على مقربة من تحقيق انتصار غير مسبوق، وهو ماضٍ إلى جنيف، ولا ينتظر هناك أكثر من أربع وعشرين ساعة، وليس مستعداً لسماع شيء عن الأسد، فالرئيس خط أحمر.

كأن المعارضة قادرة على كسب ما لم تنله بالمعارك، وكأن النظام قادر على الاحتفاظ برأسه حتى العام 2021، من دون «روتوش» إصلاحي، يختصّ بالصلاحيات والتعديلات الدستورية وطبيعة السلطة الانتقالية. لا المعارضة بالقوة الذاتية قادرة على انتزاع مكتسبات جوهرية، ولا السلطة بذاتها قانعة بتقديم تنازلات، تفرضها عملية تقلُّص سلطتها على الأرض وعلى الشعب. فنسبة الأرض السائبة 60 في المئة، أما السكان، فأكثر من ثلثهم في المنافي وتحت الخيام وعلى الشواطئ. وأكثر من 200 ألف قتيل تضمّهم مقابر مجهولة الإقامة.

يُقال، في التفاوض، لا تثار المسألة الإنسانية إلا في حقل الابتزاز المتبادل. لا قيمة للبشر على الطاولات ولا في الأوطان المفرَغة من الحرية والعدالة والكرامة. لذا، ستكون المسائل المثارة هي نفسها، تلك التي كانت مزمنة، منذ ما قبل «الربيع الدمشقي المغدور»، أي طبيعة السلطة وأنظمة الحكم والتعديلات الواجبة لعودة السلم البارد بين «مكوّنات» (نسمّيها في الحروب المدمّرات) الجموع السورية الطافرة من الدولة وعن السلطة، واللاجئة إلى محاور دولية، ذات الحق الموضوعي، في تدوير الزوايا وفرض التوصيات، والاستعانة بالوقائع، وما ملكت أياديها من قدرة على الإقناع، إما بالقوة العسكرية وإما بالجزاء السياسي والمكاسب السلطوية.

التفاوض، إن بدأ فسيكون متعثراً ومديداً. سيحفل بالألاعيب والعروض الملغومة. خريطة الطريق إلى سوريا الغد، لا يرسمها القرار الدولي. مجلس الأمن وضع إطاراً للحل ولم يكن في وارد الدخول والتدليل على التفاصيل.

فلنفترض أن وفد السلطة استطاع تلزيم الخط الأحمر للجميع للبدء بعملية التفاوض، فماذا عن المشكلات السورية العميقة والشائكة؟ ماذا عما يعود إلى ما قبل الاندلاع، وماذا عما أنتجته الحرب من خراب شامل؟ كم من الضغوط ستُبذل لإقناع السلطة والمعارضة بالتنازلات الضرورية؟ مَن سيستخدم السلالم لإنزال عباقرة المستحيلات عن الأشجار العالية؟ مَن يمثل المعارضة (أو المعارضات)؟ ما حصة الأطراف الخارجية الروسية والأميركية والسعودية والقطرية والإيرانية، ثم ما هي حصة السلطة، الراغبة على ما يبدو، بضم أطراف مرضي عنه إلى حاشيتها؟ أي شكل ستأخذه السلطة التوافقية الانتقالية؟ هل ستكون شكلية وهذا من العبث، من دون صلاحيات ونفوذ في مسائل الأمن والعسكر والسياسة الخارجية؟ هل السلطة الإجرائية الانتقالية، هي لملء فراغات في الوزارات الخدماتية أم هي سلطة المشاركة في القرارات وفي الوزارات «السيادية»؟ مَن سيرسم السياسة الخارجية في بلد المنازلة الكبرى بين محوري طهران والرياض وبين خصمين عنيدين، بوتين وأردوغان؟ هل يكون «الحَكَم» الأميركي حليف إسرائيل الدائم، راعي «السلام الإقليمي» بحدود «السلام الإسرائيلي» حيث لا يُركن «لسلام عربي» أو «لسلام إسلامي»؟

هذه أسئلة البدايات والنهايات، وما بينها أسئلة أخرى: مَن سيقوم بالتعديلات الدستورية ومَن سيتبنى تعديلات جذرية، تنتزع من الرئاسة صلاحياتها، فيتحوّل النظام إلى نظام التشارك البرلماني الشعبي، إلى نظام شبه ديموقراطي، يحترم الحريات ويتبنى العدالة القضائية والإنصاف الاجتماعي؟ مَن سيتولى الديباجة ومتى تعرض على الاستفتاء الشعبي؟

دون ذلك معارك كلامية طاحنة.

ثم، أي انتخابات ستُجرى ووفق أي قانون؟ أكثري؟ نسبي؟ مزدوج؟ يعترف بالتعدد الحزبي، أم بالتعدد الاثني والمذهبي والطائفي؟ ثم، كيف ستجرى والأرض موزعة إلى جبهات قتال (مع «داعش» و «النصرة») وإلى مواقع محصّنة بأسماء السلطة أو المعارضة أو قوى الأمر الواقع العسكرية؟ ثم، أي سوريا ستكون مقبولة: سوريا المركزية أم سوريا الفيدرالية أم سوريا المتعدّدة، تعدد أقوامها وتعدد مذاهبها؟

ثم، ولا ثم أصعب منها؟ ما هو مصير الرئيس الأسد؟ أيكون هو نفسه بالصلاحيات المطلقة، في الفترة الانتقالية وما بعدها؟ هذا من المستحيلات. فالعنوان الأول للحرب، بعد اندلاع المعارك، هو النظام برمّته ورأس النظام معه. وهذا من المستحيلات أيضاً، في ظل موازين القوى الميدانية والعسكرية. وإذا كان المطلوب أن يُقدم الرئيس على تنازلات، فما هي؟ ما حجمها؟ ما تأثيرها؟ عماذا سيتنازل، والحكم رئاسي والانتخابات البرلمانية تمثيلية هزلية لا تقنع مَن يقوم بتمثيلها؟ هل سيكون رئيساً بنصف صلاحيات أو دون ذلك؟ ومتى تجري الانتخابات الرئاسية القادمة؟ هل بعد إتمام ولايته الثالثة أم قبلها؟

أسئلة بعمر السنوات. إذا كانت الحرب قد بلغت الخامسة، فالتفاوض قد يبلغ أكثر. ومَن سمع وليد المعلم يهدّد ديميستورا والمعارضة ويضع خطاً أحمر، عليه أن يضع وشاحاً أسود على طاولة التفاوض. ومَن سمع ما تقوله المعارضة، عليه أن يكون مستعداً لمسلسل من القتال العبثي.

سوريا غداً؟

ما زال الوقت باكراً.