لم يوفر النظام السوري دقيقة واحدة من وقته، خلال الأيام الثلاثة لـ «جنيف 3» بين 17 و19 نيسان (ابريل)، من دون العمل بمختلف الوسائل، السياسية والعسكرية والديبلوماسية، لإفشال المؤتمر أو أقلـــه دفع المعارضة لتعليق مشاركتها فيه… كما حدث فعلاً في النهاية.
تمثلت البداية في تأخر وفد النظام عن الحضور إلى جنيف في الموعد المحدد سابقاً، بحجة مشاركة بعض أعضائه في ما سمي «انتخابات نيابية» أجريت حينها في سورية، لكأن الحضور أو عدمه يؤثرـ في نتيجة الانتخابات، وبالتالي سقوط هـــؤلاء الأعضاء (لم يعرف عددهــــم من بين 14 عضواً في الوفد). ثم كـــرت سلسلة الأفخاخ والعبوات الناسفة بعد ذلك على الشكل التالي:
أولاً، إعلان رئيس وفد النظام، بشـــار الجعفري، أن لا شيء في «جنيف 3» يتــعـــلق بمستقبل رئيس النظام بشـار الأسد، وأن جل ما يمكن بحثه تحت عنوان «المرحلة الانتقالية» التــــي تحدثت عنها ورقة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا هو تشكيل «حكومة وحدة وطنية» من النـــظام والمعارضة والمستقلين بقيــــادة الأسد وتحت إشرافه.
وفضـــلاً عن إدراك الوفد المسبق أن المعارضة ترفض هذا الطرح، فالمعارضة تعرف جيداً بدورها ماذا يعني النظام بتعبير «المستقلين» الذين، كما هي العادة منذ أكثر من 45 عاماً من حكم الأب والأبن، لا يقصد بهم سوى أهل النظام أو من يطلق عليهم اسم «معارضة الداخل».
وأكثر من ذلك، فقد بدا أن الوفد الذي كان مطالباً بتقديم موافقته أو تعديلاته على ورقة دي ميستورا، لم يفعل، إلا أنه رفض هذه الورقة بالكامل، مما دعا المبعوث الدولي إلى التراجع عنها (أو عن بعضها)، أملاً ربما في أن يقنع النظام بها… ليدخل تالياً في نقاش ساخن مع وفد المعارضة، وحتى اتهامه بأنه تراجع عما اقترحه سابقاً قبل تأجيل جولة المفاوضات الماضية.
ثانياً، إطلاق عدد من الإشاعات الكاذبة والملفقة بهدف نسف المؤتمر من يومه الأول. بينها، مثلاً، اقتراح تعيين ثلاثة نواب للرئيس، يعين أحدهما النظام وتعين ثانيهما المعارضة ويترك للمستقلين أمر تعيين الثالث. وبينها كذلك تسريب أنباء عن مسار تفاوضي سري بين واشنطن وموسكو، وتوافقهما على تشكيل ما وصف بـ «مجلس عسكري» للإشراف على المرحلة الانتقالية، وأن يضم هذا المجلس ماهر الأسد وعلي المملوك عن النظام، بانتظار تسمية آخرين من خارجه. ليس ذلك وحده، بل تعمّد إشاعة أن العاصمتين بدأتا اتصالات مع ضباط منشقين وموجودين في الخارج (تركيا والأردن وفرنسا تحديداً) لضمهم إلى هذا المجلس.
وإضافة إلى «المجلس العسكري» هذا، تسريب أنباء عن إنشاء «مجلس وطني» للشؤون السياسية، وثان للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار، على أن تنبثق منه الإثنين حكومة تضم ما سمي «مختلف القوى السياسية والطائفية» في البلاد… ولكن دائماً مع بقاء الأسد وإشرافه على الفترة الانتقالية من أولها إلى آخرها…
وعلى رغم نفي واشنطن وموسكو وجود هذا المسار السري أو هذا «التوافق»، فقد استمر إعلام النظام وحلفائه (خصوصاً في لبنان) في بث هذه الشائعات ونسبها إلى مصادر عليمة أو موثوقة في أوروبا. تماماً كما واصل هذا الإعلام الحديث عن «تحالف» يزداد قوة بين موسكو وطهران ودمشق من جهة، وعن تنسيق بينه وبين إدارة باراك أوباما المنسحبة من المنطقة من جهة ثانية، بهدف محاربة «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية والقضاء عليها في نهاية الأمر.
ثالثاً، شن سلسلة عمليات حربية في حلب وريفها، بعد الحديث عن اتفاق مع موسكو في شأنها (نفته هذه لاحقاً) كما في ريف دمشق ومخيم اليرموك وادلب ومعرة النعمان وكفر نبل، ما أدى إلى مجزرة ذهب ضحيتها أكثر من مائة مدني في يوم واحد.
وفي الوقت الذي كانت تخرج إلى العلن حقيقة وجود حوالى ثمانمئة ألف سوري من دون غذاء أو دواء في عدد من المدن والقرى التي تحاصرها قوات الأسد وميليشيات «حزب الله»، وكانت وكالات الإغاثة الدولية والأمم المتحدة تتحدث عن «وضع كارثي» للناس هناك، وتطالب برفع الحصار عن تلك المدن وتسهيل دخول الإمدادات الضرورية إليها، كان النظام وحلفاؤه لا يشددون الحصار ويمنعون عمليات الإغاثة فقط، بل يتعمدون قصف المناطق المحاصرة بالمدفعية الثقيلة والبراميل المتفجرة أيضاً.
وما حدث، بعد قرار المعارضة تعليق مشاركتها في المفاوضات، وتمثل بإخراج 250 من الأشخاص المحاصرين في الزبداني ومضايا في مقابل 250 من الكفرا والفوعة، انما يعني أن الحصار والتجويع هما جزء لا يتجزأ من حرب النظام للبقاء من جهة، لكن كذلك لإفشال أي حل سياسي يمكن أن يزيح رأسه من جهة ثانية، تماماً كما كانت حال هذا النظام طيلة السنوات الخمس الماضية.
لا يريد هذا النظام سوى أن يكون مصير «جنيف 3» شبيهاً بزميليه «جنيف 1» و «جنيف 2» خلال الأعوام من 2012 حتى الآن: كلام على حل سياسي، لكن في مقابل عمل دائم من أجل حل عسكري ينهي الثورة والمعارضة… ومعها الشعب كله إذا لزم الأمر.
ولعله من هنا يمكن فهم قرار ايران أخيراً إرسال وحدات من جيشها، وليس من «الحرس الثوري» فقط، للقتال إلى جانب الأسد والميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية. كما كذلك فهم كلام وزير الخارجية الروسي فلاديمير بوتين الذي وصف تعليق المفاوضات بأنه دليل على عدم قدرة وفد المعارضة هذا على تمثيل الشعب السوري.