كان من الواضح دخول نظام بشار الأسد في مراحلة النهائية خلال الشهور الستة الماضية. وكان أكثر وضوحاً أن جميع المعنيين بما يحدث في سورية يعرفون أن إسقاطه في هذا الشهر أو الذي يليه هو كارثة بكل المقاييس على المنطقة بأسرها. أميركا وروسيا تدركان ذلك. ودول المنطقة التي تدعم المعارضة السورية أيضاً تدرك هذا الأمر، فالخراب المتوقع من تفريغ مؤسسة الحكم الحالية في دمشق وانهيار مؤسساتها العسكرية والأمنية والعدلية قبل الاتفاق على نظام بديل، هو أبشع بعشرات المرات مما يحدث الآن من خراب. أما الدول والتكوينات التي تقف في صف نظام بشار ضد شعبه، فمصيبتها أكبر بالطبع، كون خسارتها غير محصورة بما سيصيب المنطقة من خراب، وإنما تمتد لتشمل فقدان المصالح البينية المضمونة والجارية بوجود النظام.
إذاً، ما دام الجميع متفقاً على أن هذا ليس هو الوقت المناسب لرحيل بشار، فمن هو الطرف القادر على التدخل لإبقاء النظام بصيغته الراهنة؟ هل تستطيع السعودية أو تركيا أو أميركا أن تصطف مع بشار لقتال الجماعات الإرهابية التي تقاتل المعارضة ونظام الأسد في آن؟ هل يمكن أن تنسق هذه الدول مع وزارة الدفاع السورية لدرء خطر استيلاء الجماعات الإرهابية على دمشق؟ الجواب ببساطة شديدة هو لا.
هل إيران هي الحل؟ هل سترضى دول المنطقة بتدخل إيران عبر سلاحها الجوي لضرب الجماعات المسلحة التي تضع دمشق هدفاً نهائياً لتحركاتها؟ هل إيران طرف موثوق به دولياً لدفع الخطر موقتاً إلى حين الاتفاق على صيغة مناسبة لرحيل بشار ونظامه؟ الجواب ببساطة شديدة هو لا؟
من إذاً يستطيع التدخل بأقل التحفظات الإقليمية والعالمية؟ ليس هناك سوى روسيا. ليس هناك سوى الدولة التي وقفت خلف بشار الأسد خلال أربع سنوات ونصف السنة. ليس من أجل انتماء مذهبي أو اصطفاف إقليمي، وإنما من أجل ضمان المصالح القائمة، ومعادلة الوجود الأميركي في إحدى النقاط الساخنة على خريطة العالم.
جاءت طائرات «سوخوي» إلى قاعدة حميميم، بشبه رضا أميركي وإقليمي. وبدأت عملها المفترض الذي لم يكن ليكون لولا الضوء الأخضر الأميركي وموافقة ضمنية من دول المنطقة. ثم بدأت تتتالى التصريحات البيضاء من الدول الرافضة لوجود بشار الأسد في سدة الحكم في سورية. ترحيب بتحفظ. وقلق مشروط. واحتجاجات صغيرة ناعمة. لكن فجأة بدأت التصريحات تتخذ شكلاً جديداً. تحولت التصريحات ذات الصوت الخفيض إلى لافتات احتجاجية كبيرة، وراح الأميركيون والأوروبيون والشرق أوسطيون يحذرون روسيا من مغبة التدخل غير المحسوب! ما الذي حدث؟ يبدو أن الروس اختاروا أن يلعبوا لعبتهم الخاصة بعيداً من القوى الشريكة في المنطقة، وهذا ما حصل بالفعل!
اختطف الروس الموقف الأممي الحائر وحولوه لمصلحتهم، وصارت سورية لأول مرة منذ العام 2011 ورقة كاملة الأجزاء في يد رجل الكرملين القوي.
الواقع على الأرض الذي فُرض بموافقة أممية ضمنية، جعل الكلمة العليا في يد روسيا، وروسيا كما يعرف الجميع لا يمكن أن تفوّت مثل هذا النوع من الفرص. عبدت الطريق أمام بشار لزيارة موسكو لتقول للجميع إن الرجل «البعثي» قد أصبح رسمياً تحت وصايتها ورعايتها السياسية، فيما بشار يعتقد، بهذه الزيارة، أنه يرسل رسالة للأعداء والأصدقاء ورفاق الحزب مفادها أنه ما زال الزعيم القادر على الحركة والظهور والسفر!
اختطفت موسكو بشار ووضعته خلف ظهرها وقالت لخصوم السياسة والاقتصاد تعالوا لنتفاوض. تعالوا لنقرر مستقبل سورية. فأنا رسمياً قد أصبحت الوصية الرئيسة على الحكومة السورية المحاصرة، وبشار الذي كان ربما بنصف قرار في الحرب الطائفية التي كانت تقودها إيران و «حزب الله»، أصبح منزوع الصلاحيات في الحرب الأممية التي تقودها كنيستنا الأرثوذكسية وجيشنا الأحمر. تعالوا لنضع أوراقنا على الطاولة ونتفق ونختلف على مصالحنا العالمية.
الأميركيون عليهم أن يشكروا الروس لتدخلهم السريع لإبقاء نظام بشار قائماً، لكنهم لن يقبلوا بأن تصبح سورية ورقة أممية تلعب بها موسكو وحدها لتحقيق مصالحها الخاصة، لهذا اقترح وزير الخارجية الأميركي جون كيري لقاء رباعياً في فيينا يضم روسيا وأميركا والسعودية وتركيا للبحث في الحلول الممكنة ومحاولة انتزاع الورقة السورية – ولو جزئياً – من يد نظيره الروسي سيرغي لافروف. وافقت روسيا لكنها اشترطت أيضاً أن تتم في اليوم نفسه مناقشة الصراع العربي – الإسرائيلي عبر اللجنة الرباعية التي تضم إلى جانب أميركا وروسيا الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. الأولويات الروسية في حاجة إلى ترتيب، وعلى من يريد أن يرتبها أن يقدم التنازل تلو الآخر، وإلا – والحديث للسيد الروسي – فلتبق تصريحاتكم عندكم، وليبق بشار خلف ظهري. وعندما تم الاجتماع في فيينا لمناقشة رحيل نظام بشار من عدمه، عادت روسيا لتفرض موقف القوة من جديد وتقول: من أنتم لتمثلوا العالم في مواجهتي؟ نحتاج أيضاً إلى مصر وإيران وقطر والإمارات والأردن وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. نحتاج أكثر من 12 طرفاً دولياً ليكونوا شاهدين على تفردي بالقرار نيابة عن الرجل «البعثي» الذي أصبح نظامه تنظيماً!
انفض الاجتماع وكأنه لم ينعقد، لأنه ناقش مسألة صغيرة جداً بمقاييس الواقع وهي تغيير أو إبقاء بشار الأسد التي لم يعد حلها هو المفتاح السحري لإنهاء الأزمة في سورية. لم يستطع وزراء الخارجية الثلاثة الأميركي والسعودي والتركي نقاش حلول الأزمة بكاملها بسبب وجود بشار خلف ظهر لافروف وإصرار الأخير على أن يكون الحديث أولاً عن مسألة الحكومة والمعارضة وآليات التوفيق بينهما. ولطالما تحدث الروس كثيراً عن خلاف الحكومة والمعارضة مع إظهار الاحترام لكلا الجانبين، لأنهم يريدون إيصال رسالة محددة إلى العالم تقول إن المعارضة التي ارتبط تعريفها بمفهوم الأقلية المهزومة في الانتخابات عالمياً، تريد أن تسقط الحكومة السورية التي هي نتاج الأكثرية بقوة السلاح وبمساعدة أميركا والسعودية وتركيا ودول أخرى في المنطقة.
ربما يكون هناك «فيينا 2» وربما «فيينا 3»، لكن الأمر الذي بات أكيداً أن الأزمة السورية خرجت من حدودها القديمة ولم يعد في الإمكان إرجاعها إلى واقع «داعش» و «جبهة النصرة» و «الجيش الحر» و «حزب الله» وإيران. كما أن بشار الأسد لم يعد موجوداً على خريطة القرار، وبالتالي فقد أصبحت مسألة بقائه من عدمها جزءاً من التاريخ.