لم يسبق أن نظّمت دولة مثل روسيا «مونديال» كرة القدم فيما ترتكب جرائم حرب في بلد آخر، هو سورية، حيث تغير طائراتها على المدنيين في درعا، فتقتل العشرات وتتسبّب بتشريد ألوف العائلات. أليس في ذلك تناقض فاضح بين أهداف روسيا وأهداف «الفيفا»، بين أن تكون كأس العالم رسالة سلام ووئام، وأن تكون وسيلة دعائية لتبييض صفحة نظام استمر في سفك الدماء وأحدث الدمار على خلفية المباريات ودوي الهتاف لـ «الأغوال»، إذ تهزّ أشباك المرامي. ثمة لا أخلاقية دولية في التمسّك بـ «لا سياسة في الفوتبول» والتعامي عن مآسي الشعوب، فعندما اختيرت روسيا لتنظيم الدورة الـ21 للمونديال، لم يكن العالم قد نسي الوحشية التي أخضعت بها غروزني (الشيشان)، ولا استغلال الانشغال بأولمبياد بكين لاحتلال أوسيتيا الجنوبية وانتهاك أراضي جورجيا، وعندما حان موعد المونديال الحالي كانت روسيا أصبحت تحت عقوبات دولية بعد ابتلاعها شبه جزيرة القرم وشروعها في تقسيم أوكرانيا، ومن ثمَّ استدعاها النظام السوري المنبوذ دولياً لإنقاذه، ففعلت وتعاونت مع نظام إيراني، منبوذ دولياً هو الآخر، لتدشين نمط جديد من الاحتلال الاستعماري.
ليست هاشتاغات مثل «#كأس_حرب_ روسيا_2018# أو #مونديال_روسيا_السوري# ما يمكن أن يردع موسكو، إذ يقتصر تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على التعبير عما في الوجدان وتسليط الضوء على الفظاعات التي تمارسها بكل دمٍ بارد ومن دون أي حساسية. كان بعض المواقع الروسية زعم أن فلاديمير بوتين طلب من بنيامين نتانياهو أن تُوقف إسرائيل عمليات القصف في سورية طوال شهر المونديال لئلا «تُحرج» روسيا. لكن هذا الزعم كان تسريبة افتراضية كُذبت من الجانبين. فمن جهة، كان القصف الإسرائيلي موجعاً للنظام والإيرانيين في دير الزور ولـ «حزب الله» في القلمون، تحديداً في القصير، وليس مؤكّداً أن «الحزب» فرض تعتيماً على أنباء القصف لأنه أراد مثلاً عدم التشويش على المونديال. ومن جهة أخرى، استبقت الطائرات الروسية المونديال وخرقته بسلسلة غارات قاتلة لفتح الطرق أمام تقدّم الميليشيات الإيرانية، المتنكّرة بلباس قوات النظام والموصوفة كالعادة بأنها «قواته». وسيستلزم الوضع الميداني مزيداً من تدخّل الطيران الروسي لحسم في درعا، لأن عديد قوات «النمر» لا يكفي، وخطط ميليشيات إيران لا تفلح دائماً، وأيضاً لأنه لم يُترك سبيل آخر لمقاتلي الفصائل غير التصميم على الدفاع عن أرضهم وبيوتهم وذويهم، وبالتالي فإن بوتين سيسترشد مجدّداً بـ «نموذج غروزني» التدميري، وهو ما تخشاه قوافل النازحين في اتجاه حدود مقفلة أردنياً، وإسرائيلياً طبعاً.
كان لا بدّ لروسيا أن تتهيّأ للجنوب بصيغ أخرى غير الغزو والإخضاع، وأن لا تركن فقط إلى اتفاق مع إسرائيل على إبعاد الإيرانيين عن جبهة الجولان في الجنوب الغربي لتعتبر أن «مصالحات» نظام بشار الأسد ستعبّد الطريق إلى درعا من دون صعوبة. مصالحة، لكن كيف؟ بنقل أهالي حوران إلى إدلب؟ ولا أي «مصالحة» سابقة كانت حقيقية، ولا أي ضمانات روسية أو «تسوية أوضاع» للمقاتلين استطاعت الحؤول دون استئناف النظام انتهاكاته واعتقالاته، ولا وجود شرطة روسية استطاع طمأنة السكان وضمان سلامتهم ومنع الاعتداء على ممتلكاتهم. فالمعضلة الصعبة في استعادة النظام السيطرة، أنها عَنَت دائماً إخلاء المناطق وإذلال القليل من السكان الذي يبقى فيها وإفلات زُمَر «التعفيش» لنهب ممتلكات الذين غادروها، وكذلك إدخال قطعان المستوطنين الإيرانيين ليباشروا خطط التغيير الديموغرافي.
فأي «مصالحة» يتفاوض ضباط حميميم عليها مع ممثلي فصائل درعا؟ نعم، كان هناك بند عنوانه «عدم تهجير السكان»، لكن يُفترض أن هؤلاء الضباط باتوا يعرفون شيئاً عن صعوبات التعايش بين الناس وبين نظام عاملهم ولا يزال بكل وحشيته التي تضاعفت مع الدعم الروسي – الإيراني. فـ «المصالحات» لم تجدّد التعايش بل أعادت إنتاج سياسات القهر التي أدّت إلى ما تعيشه سورية منذ سبعة أعوام. حتى لو كانت خطة «مناطق خفض التصعيد» خدعة في الأساس، فقد تم تقديمها على أنها مرحلة على طريق إنهاء الحرب، ولا بدّ أن يواكبها تقدّم ملموس على مسارات الحل السياسي. وهو ما لم يحصل وما يمثل ذروة الفشل الروسي، إذ حوّلها النظام وحليفه الإيراني خطة لمواصلة الحرب وإنهاء سيطرة المعارضة في كل المناطق، مع رفضٍ مطلق لأي بحث في حلّ سياسي ما لم تُستَعَد السيطرة كاملة.
لكن النظام لم يعد يملك الإمكانات لفرض هذه السيطرة إلا بالاعتماد على حليفه الإيراني. وهذا ما ظهر في درعا حيث تخوض ميليشيات طهران المعارك وحدها تقريباً، إذ استُبعد العلويون إلا بأعداد رمزية وأحجم دروز السويداء عن المشاركة. وعدا ذلك أصبح معروفاً أن النظام يعوّل على أجهزته لتسريع إعادة تجنيد مقاتلين كانوا في الغوطة ومناطق أخرى ولالتقاط أي شخص يمكن تجنيده، في موازاة الاعتماد على «حزب الله» والأجهزة اللبنانية لتجنيد نازحين سوريين بعد إرغامهم على العودة. لا شك أن النظام يعتمد في تعنّته على ما أصبح معروفاً وشبه معلن، وهو أن الروس والأميركيين والإسرائيليين متوافقون منذ إدارة باراك اوباما، وأيضاً مع إدارة دونالد ترامب، على جملة أهداف في سورية. أولها مكافحة الإرهاب، وثانيها إخماد الجانب العسكري من انتفاضة الشعب، وثالثها – لكن «أهونها» على ما يبدو!- النظام وسلوكه باجتذاب الإرهاب واستثمار عسكرة الانتفاضة. استفاد النظام إلى أقصى حدّ من ورقة الإرهاب التي صنّعها مع الإيرانيين، ومن العسكرة التي غدت أسلمة تثير مخاوف الغرب، ويراهن على تمسّك الروس والإيرانيين بالأسد للتغلّب على ممانعة الدول الغربية إعادة تأهيله.
هذه الدول، بما فيها الولايات المتحدة، مستعدة للتغاضي عن بقاء الأسد لقاء تسليم سورية كلياً إلى روسيا والتعامل معها بناء على الضمانات التي تستطيع تقديمها. وأولها على الإطلاق إخراج الإيرانيين أو على الأقل سحب الجانب العسكري من وجودهم، فالأميركيون والإسرائيليون يضمنون بقاء الأسد ويتوقّعون منه تعاوناً ملموساً في عملية التخلّص من الإيرانيين. لكن طهران لا تطمئن إلى مصالحها إلا إذا كانت لديها بنية عسكرية تحميها. ومنذ أعلن بوتين ضرورة انسحاب القوات الأجنبية من سورية استطاع الإيرانيون تخويف الأسد بأنه إذا أجبره الروس على الاستغناء عنهم فهذا سيعني تلقائياً نهايته ونهاية نظامه. وبعد سلسلة الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية، بدأ الهمس في الحلقات القريبة من النظام بأن طهران بدأت عملياً وضع سيناريوات للمرحلة الأسوأ، فهي لن تخوض مواجهة مع الروس، لكنها قد تلعب ورقة «المقاومة» ضدّهم معتمدة على المجموعات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» وبقايا «داعش»، ولن تمتنع عن التواصل مع فلول فصائل مقاتلة لم تعد تتلقى أي دعم خارجي، تحت عناوين «إجلاء الروس» أو «تحرير الجولان». وبمقدار ما يتخوّف النظام من صدام روسي – إيراني، مباشر أو غير مباشر، بمقدار ما يحاول إيجاد الصيغة المناسبة لاستغلال هذا الاحتمال لمصلحته.
أما الضمانات الأخرى المطلوبة من روسيا فيركّز عليها الأوروبيون، إذ إن سكوتهم على بقاء الأسد من دون التعامل الرسمي معه مشروط بأمرين مترابطين: حل سياسي ولو بطيء من طريق اللجنة الدستورية، وخطة إعادة إعمار مبنية على استعادة النازحين واللاجئين. إذا لم يُحرَز تقدم في هذين الاستحقاقَين، فإن الأوروبيين (والعرب) لن يرصدوا أي أموال للمساهمة في تطبيع الوضع السوري. للمرّة الأولى منذ تغيّرت موازين القوى لمصلحته، بدأ النظام يستشعر صعوبة استعادة السيطرة، فالدولة مفلسة ولا موارد لها. لذلك، يصرّ النظام على فتح معبر نصيب الحدودي مع الأردن لإنعاش الخط التجاري، ويحاول التصالح مع الأكراد في الشمال لاستعادة حقول النفط، ويأمل بأن يتمكّن الروس من تعديل الموقف التركي. لكن ذلك كله لن يكفي مرحلة «السيطرة المستعادة» لتلبية المتطلّبات الهائلة في البيئة الموالية قبل تلك المعارضة.