لو كانت الأمور على ما يرام، لَما تمَّ انتظار يوم 31 تشرين الأوّل، ولكانت جلسة الانتخاب عُقدت بعد 24 ساعة من إعلان الرئيس سعد الحريري تبنّيَه ترشيح العماد عون. فالرئيس نبيه بري كان قد وعَدَ بتقريب موعد أيّ جلسة إذا توافرَت العناصر الإيجابية لإنجاز الانتخابات. ولكن، على العكس، بدلَ تقديم الموعد، ثمّة مَن طَرَح في الأيام الأخيرة أسئلةً عن مصير جلسة 31 نفسِها.
رقمياً، يمكن القول إنّ عون بات يَحظى بالغالبية النيابية المطلوبة لانتخابه، في الدورة الثانية (65 صوتاً) إذا لم يكن في الدورة الأولى (85 صوتاً)، كما أنّ النصاب متوافر ما دامَ معارضوه يؤكّدون أنّهم لن يعاملوه بالمِثل، أي أنّهم سيشاركون في الجلسة ويصوِّتون ضدّه أو بأوراق بِيض. ولكن، ما زالت هناك مسافة ربّما، ما بين الحسابات الرقمية والحسابات السياسية.
الكلمة الفصلُ يَملكها طرف واحد هو «حزب الله» الذي أعلنَ بوضوح، بلسان السيّد حسن نصرالله، قرارَه المشاركةَ في الجلسة والتصويتَ لعون. وستَظهر المفاعيل على الأرجح قبل 31 تشرين، لأن لا مصلحة لأحد في أن ينحشرَ في اللحظة الأخيرة.
ولكن، وإن يكن «الجنرال» «على الرّاس والعين»، فـ«الحزب» لن يكون معنيّاً بأيّ اتّفاق عَقده، لا مع «القوات اللبنانية» ولا- خصوصاً- مع الحريري. ولذلك، فالمشكلة بين عون وبري سيَجري حلّها بعد الانتخابات لا قبلها، مع الحِرص الشديد على أنّ بري هو الحليف الأوّل، وأنّه الرئيس الدائم للمجلس النيابي بالنسبة إلى «الحزب».
وترجمةُ كلّ ذلك أنّ على عون أن ينتظر موقفاً موحّداً بين بري و»الحزب» بعد الانتخابات، على الأرجح ينضمّ إليه النائب وليد جنبلاط. وهنا تبدأ المساومة الحقيقية مع عون، ولكن خصوصاً مع الحريري. وهذا ما يبرّر أيضاً قولَ الحريري إن ترشيحَه لعون يتضمّن مخاطرة.
الجديد في كلمة نصرالله أمس هو أنْ لا فيتو من «الحزب» على ترؤسِه الحكومة. وهذا الكلام يأتي وسط ما أشيعَ عن احتمال وجود فيتو سوري أو إيراني عليه. لكن الاستحقاق الذي سيواجهه الحريري بالتأكيد هو في تركيبةِ الحكومات التي سيتولّى تأليفَها. فهل يطالب بضمانات تكفَل أن يستطيع تأليفَها، ليس فقط من جانب القوى الداخلية، بل أيضاً لجهة وجود تغطية إقليمية ودولية للصفقةِ العونية – الحريرية.
فالمثير هو أنّ أيّ صوت إقليمي أو دولي مرحِّب بمبادرة الحريري لم يُسمَع حتى الآن، خلافاً لمبادرته السابقة التي تبنّى فيها ترشيح النائب سليمان فرنجية. فالفرنسيون مرتاحون اليوم إلى احتمال إنهاء الفراغ، لكنّ علاقة عون بـ»الحزب» ربّما تُحرجهم، وكذلك الولايات المتحدة والسعودية. أمّا السوريون فبَعثوا بإشارات التحفّظِ لا على عون بل على الحريري، وهناك صمتٌ في إيران.
فهل المبادرة الحريرية «مقطوعة من غصنِ شجرة» ولا أب لها، لا إقليمياً ولا دولياً؟
هناك انطباع لدى البعض بأنّ صفقة عون – الحريري تمّت بتغطية محلية، ويريد أقطابُها استعجالَ تمريرها في لحظة التلهّي الإقليمي والدولي بمجريات الحرب في سوريا والعراق واليمن، وانتظار الرئيس الجديد في البيت الأبيض.
وهنا تَرفض أوساط الحريري الكلامَ الذي يصوِّره مجرّدَ راغب في العودة إلى السلطة بأيّ ثمن، للتخلّص من أوضاعه الصعبة ولَملمةِ الجماهير داخلياً. وكذلك، ترفض أوساط عون الكلامَ على أنّه يعيش هواجسَ السلطة منذ 30 عاماً.
وصحيح أنّ ارتكاز مبادرة الحريري إلى عناصر محض محلّية هو عامل قوّة لها، لكنّه أيضاً يثير المخاوفَ من سقوطها، سواء قبل 31 تشرين الأوّل أو بعده. فلا أحد مقتنع بأنّ بعض القوى الداخلية، السنّية والمسيحية خصوصاً، بات يمتلك القدرةَ على تمرير اتفاقات غير مغطاة إقليمياً ودوليّاً، فيما القوى الأخرى ذات التأثير تنخرط تماماً في مجريات الصراع الدائر في الشرق الأوسط.
فتورُّطُ بعض القوى اللبنانية في حروب المنطقة يَدفعها إلى التعاطي مع لبنان بوصفِه واحدةً من أوراق المساومة، حتى انتهاء هذه الحروب. ولو كانت «لبنَنة» التسويات ممكنة أساساً، لَما حلَّ الفراغ الرئاسي ولَما تعطّلت المؤسسات، ولَما وقعَ لبنان ضحية 2.5 مليون نازح سوري وفلسطيني.
ولذلك، هناك شكٌّ في قدرة الشريحتين السنّية والمسيحية على إنضاج تسوية سياسية ثنائية تفتقد إلى التغطية الشيعية داخلياً والتغطية الإقليمية. وقد يكون الحريري اتّخَذ قراره باستقلالية عن القرار السعودي المركزي، لأسباب معيّنة، لكن يستحيل أن تتّخذ القوى الشيعية قرارات من دون التنسيق التام مع المحور الإقليمي الذي يدعمها.
وهنا يصبح مشروعاً تسليطُ الضوء على عمقِ المجريات السورية التي تتحكّم بشكل مباشَر بالواقع الداخلي اللبناني. وقد بات واضحاً أنّ الرئيس بشّار الأسد انتقلَ مِن وضعية الدفاع إلى وضعية الهجوم، بدعمٍ روسيّ – إيراني كامل، وتغطية أميركية، وصمتٍ تركيّ وعربي.
وإذ انتهت المعارك الكبرى بتكريس عجز النظام والمعارضة عن الحسمِ الكامل، فإنّ المعارك الصغرى مستمرّة لرسم الخطوط الدقيقة لمناطق النفوذ. واليوم يعمل الأسد على إحكام سيطرته على أكبر مساحة من حلب، لينتقلَ إلى مناطق أخرى، فيما يَحتفظ بـ»سوريا المفيدة» من الساحل إلى الجولان، مروراً بحِمص ودمشق.
والاطمئنان إلى المصير، باعتراف أميركي واضح، هو الذي يَدفع الأسد إلى التفكير بلعِب أوراق جديدة لطالما كان يَمتلكها، ومنها الورقة اللبنانية. وصحيح أنّ هامش الحركة قد تقلّصَ مع خروج الأسد من لبنان عسكريّاً، لكنّ تركيبة الحكم اللبنانية بعد وصول عون إلى السلطة، في ظلّ المحور الذي يتحالف معه اليوم، ستكون ملائمة لاستعادة علاقات مميَّزة مع الأسد.
وفي تقدير المتابعين أنّ عقدة الفراغ الرئاسي اللبناني مرهونة أساساً بالوضع في سوريا ومصير الأسد، وأنّ الانتخابات الرئاسية في لبنان رهنٌ باقتناع المحور الإيراني باستخدام هذه الورقة لدعمِ موقع الأسد في أيّ تسوية مقبلة على سوريا.
وانطلاقاً من هذه القراءة، يقول هؤلاء: اليوم، يتمّ البحث في تسليم رئاسة الجمهورية لحليفِ المحور الإيراني، عون، فلماذا تَرفضه إيران والأسد؟ ولكن، بما أنّ القوى اللبنانية المعادية للأسد وإيران كلّها قد أعلنَت استسلامها، وهي تقدّم التنازلات تباعاً، فلِمَ العجَلة؟ أليس الأفضل انتظارها لتخفضَ سقفَ مطالبها السياسية إلى أدنى ما يمكن؟
في تقدير هؤلاء، المعادلة التي تَرتسم اليوم (عون – الحريري الإبن – بري) ستكون على ما يبدو شبيهةً بالمعادلة التي رعاها السوريون في لبنان مع الحريري الأب. ولكن، هل يريد المحور الإيراني، بعد كلّ المغامرات التي جرت، أن يعتمد «تجربة متعِبة» كتلك في لبنان؟
خلال وجودهم في لبنان، كان السوريون معروفين بشرحِهم النظرية الآتية: إذا كنتَ تمتلك تفّاحةً وتريد بيعَها اليوم، فإنّك ستطلب ثمناً غالياً. ولكن، إذا لم يكن هناك مَن يشتريها منك، فإنّ التفاحة سيَضربها الاهتراء وستضطرّ إلى بيعها بثمن أقلّ بكثير. وإذا طالَ انتظارك لبيعها فإنّك سوف تضطرّ إلى أن تدفع للآخرين لكي يأخذوا منك هذه التفاحة المهترئة، والتي باتت عبئاً على صاحبها!
«نظرية التفاحة» هذه ما زال المحور الإيراني يعتمدها في كلّ الكيانات الشرق أوسطية التي يخوض فيها المعارك: سوريا والعراق واليمن، وطبعاً لبنان. فهل حان الوقت لإقرار الصفقة على «التفاحة»؟
راهنَ المحور الإيراني على استمرار الأسد، وقد نجَح في ذلك، وسط تواطؤ مكشوف أظهرَته القوى الدولية التي ادّعَت حماية المعارضة، ولا سيّما الولايات المتحدة. وبات الوضع العربي أكثرَ ملاءمةً له، خصوصاً مع التبدّل في الموقف المصري.
وإذا استمرّ هذا المسار في سوريا، فإنّ أيّ تسوية سياسية في لبنان، والعراق أيضاً، ستكون محكومة بمعادلة القوّة التي أرسَتها إيران في سوريا. فالأسد باقٍ… والباقي تفاصيل. وعلى الجميع أن يتدبّروا أمورَهم على هذا الأساس.