كتب المحرر السياسي:
لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السادس عشر بعد المئة على التوالي.
مع إقفال باب تقديم الترشيحات الى الانتخابات النيابية الافتراضية، منتصف ليل أمس، يكون الستار قد أسدل على مسرحية جديدة من مسرحيات الطبقة السياسية، مع فارق أساسي هذه المرة، هو أن العرض كان هزيلا جداً ويفتقر الى المواصفات «الفنية» المقنعة.
نواب ـ مرشحون يتقدمون الى انتخابات لن تتم، في كوميديا سوداء، مسرحها وزارة الداخلية في الصنائع، وتحديداً إحدى الغرف القريبة من مكتب الوزير نهاد المشنوق الذي ما انفك يؤكد استحالة إجراء العملية الانتخابية، بل إن الكثيرين من النواب الذين قدّموا ترشيحاتهم هم من المنظّرين علناً أو ضمنا لتمديد سيوفّر عليهم عناء الحملات الانتخابية وكلفتها المادية.
تدرك معظم القوى السياسية التي شاركت في «سيرك» الترشيح أن الاستحقاق النيابي مؤجل بتواطوء شبه جماعي، وأن الفائز الوحيد بـ«التزكية» في الانتخابات الوهمية هو التمديد، أما ما تبقى، قبل وبعد ذلك، فيندرج في إطار ترتيب الإخراج.
وعلى اللبنانيين أن يدركوا من جهتهم أن حسابات التمديد لا علاقة لها في الجوهر بما هو معلن من اعتبارات أمنية، يتم استحضارها غب الطلب، للتغطية على «الصفقة» وتمويهها بشعارات رنّانة، لا تعدو كونها قشرة خارجية هشّة.
لا رئيس للجمهورية، لا حياة برلمانية، والآن لا انتخابات نيابية، والحكومة تستمر بقوة دفع من الخارج، قد لا تقيها من خطر الترهل بدليل حرب المراسيم الصامتة بين المكونات المسيحية على خلفيات انتخابية وشخصية!
انه نظام سياسي ينتحر بالسم البطيء، بعدما أثبت، عند كل استحقاق، افتقاره الى الحد الأدنى من الأهلية، وتخصصه في انتاج الأزمات المستعصية، إلا على المقايضات والمساومات التي تؤجل الانفجار ولا تمنعه.
ليس مفهوما أين الحكمة في أن ينزلق أهل النظام الى هذه الهاوية طوعاً، وأين المصلحة في ان يقفلوا بالشمع السياسي الأحمر صندوق الاقتراع الذي بات آخر رئة متاحة امام الجمهور للتنفس في مرحلة الاختناق، بعدما تعطلت السبل الأخرى نحو حد أدنى من الديموقراطية.
وإذا كان حصول الانتخابات النيابية في زمن «داعش» وأخواتها، وتحت وطأة الاحتقان المذهبي والسياسي السائد، قد ينطوي على مجازفة ما، إلا ان هذا الخيار المحفوف ببعض المخاطر يظل أفضل بكثير من التمديد وقتاً إضافياً لحالة «الموت السريري» التي تعاني منها الدولة، في ظل واقع مهترئ يقضم المؤسسات، ويستنزف الشعب والخزينة، الى حد أن رئيس الحكومة يجاهر علنا بأن الوضع المالي خطير!
يكفي أن إجراء الانتخابات يمكن ان يشكل فرصة لتحريك المياه الراكدة والدفع في اتجاه الخروج من المأزق الحالي وكسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها الجميع، إذ ان من شأنها ان تضخ دما جديدا في العروق المتيبسة للحياة السياسية، وأن تزيل الالتباسات حول احجام اللاعبين وما يستحقونه من أدوار وأفضليات، وصولا الى إعادة فتح الابواب المقفلة لقصر بعبدا ومجلس النواب وباقي المؤسسات.
وربما تكون الانتخابات وسيلة لفك الارتباط، لو بشكل موضعي، عن أزمات المنطقة وحلولها المتأخرة، بالنظر الى الدينامية التي يمكن أن تطلقها في الصحراء السياسية اللبنانية القاحلة.
ولأن الانتخابات النيابية وحدها، تستطيع ان تكون «رافعة» و«قوة دفع» وسط المراوحة التي يتخبط فيها لبنان، فانها تستحق شيئا من المغامرة المحسوبة، التي تظل أفضل، أو بالحد الأدنى أقل سوءا، من الاستسلام للأمر الواقع والارتماء في أحضانه، في انتظار المجهول.
أما الذريعة الأمنية التي يتسلح بها محبذو التمديد فليست متينة الى الحد الذي يتيح لها الصمود طويلا، ذلك ان الامن في لبنان هو سياسي بالدرجة الاولى، وهذا يعني انه إذا توافرت الإرادة الفعلية عند الأطراف الوازنة لإجراء الانتخابات يصبح من الممكن رفع منسوب «حمايتها» وتأمين «حصانة» وطنية وأمنية لها، فكيف إذا أكد الجيش اللبناني خلال اجتماع مجلس الامن المركزي أمس، برئاسة وزير الداخلية انه جاهز لمواكبة العملية الانتخابية، برغم انه يفترض ان تكون المؤسسة العسكرية الاكثر تحفظا وترددا، كون وحداتها تستنزف بانتشار مكلف على رقعة الوطن من أقصى الجنوب الى أقصى البقاع، وما بينهما.
فضيحة الأرقام
والمفارقة، ان غالبية النواب المتحمسين للتمديد هم مجرد «أشباح» بالنسبة الى لبنانيين كثر، وحتى الى ناخبيهم، بفعل غيابهم الكامل «صوتا وصورة» عن الشأن العام عموما، وساحة المجلس خصوصا.
والاسوأ، ان هذا المجلس العاطل عن العمل يرتب على المواطنين كلفة عالية، وفق دراسة أعدتها «الدولية للمعلومات»، وتبين بموجبها ان اللبنانيين دفعوا من جيوبهم نحو 400 مليار ليرة (266 مليون دولار) لمجلس النواب خلال الولاية الاصلية والممددة، بدل مخصصات وتعويضات للنواب ورواتب موظفي مجلس النواب وأكلاف النظافة والكهرباء والهاتف والصيانة والتأهيل، وذلك بمعدل 139 ألف دولار يوميا.
وقد عقد المجلس في خمس سنوات وثلاثة أشهر 16 جلسة تشريعية أقر خلالها 218 قانوناً، أي أن كلفة كل قانون أقر بلغت مليون و200 ألف دولار.
وجاءت انتاجية المجلس تبعاً للسنوات على الشكل الآتي:
2009 (ابتداء من 20 حزيران تاريخ بدء ولاية المجلس): صفر جلسات وقوانين.
2010 : 57 قانوناً في 4 جلسات تشريعية.
2011 : 69 قانوناً في 5 جلسات تشريعية.
2012 : 42 قانوناً في 3 جلسات تشريعية.
2013 : قانونان في جلستين تشريعيتين.
2014 (حتى 17 أيلول): 48 قانوناً في جلستين تشريعيتين.
وبعد ذلك كله… ألا يستحق لبنان مجلسا افضل تمثيلا وأكثر «خصوبة»، علما ان جزءا من المسؤولية عن الواقع المأزوم الحالي يقع ايضا على عاتق الناخبين الذين يمضون الوقت في التذمر مما آلت إليه الأحوال، ثم لا يترددون كل اربع سنوات في التجديد للطبقة السياسية نفسها، «زي ما هيي»، الامر الذي يؤدي في كل مرة الى استنساخ الازمات والشكوى منها.
ان التمديد الداهم يشكل إهانة موصوفة للبنانيين الذين يراد لهم ان يصفقوا لجريمة مصادرة ارادتهم و«ذبح» ديموقراطيتهم… فهل ينتفضون على هذه «العقوبة الجماعية» أم ينصاعوا لها، كما درجت العادة.
ربما الإجابة معروفة، لكن يبقى أمل ضئيل في مفاجأة ما، في آخر الطريق، الا اذا كان انهيار النظام أصبح حتميا، فيما البديل يبقى غامضا، لكنه في كل الأحوال، يبقى أفضل من استمرار حالة الحرب الأهلية الباردة.