العودة إلى عصر الاغتيالات السياسيّة في لبنان مسألة في منتهى الخطورة. سواء إتفق المرء مع الشهيد لقمان سليم أم لم يتفق، إلا أنه لا يمكن إلا إحترام جرأته وشجاعته ومجاهرته برأيه السياسي الذي كان مغايراً للسائد لا سيّما في بيئته الاجتماعيّة المباشرة.
إن إصطياد الشخصيّات السياسيّة والاعلاميّة والثقافيّة لمجرد إدلائها برأيها إنما يعكس ثقافة الالغاء والاقصاء والتهميش، فالتصفية الجسديّة هي ممارسة متوارثة من القرون الغابرة وتعكس الأهداف القمعيّة التي تعتنقها بعض الجهات، بينما تختبئ تحت شعارات فارغة تتغلغل من خلالها للسيطرة على المجتمعات في المنطقة العربيّة التي تعاني بدورها من الفقدان التام للمبادرة السياسيّة، ما أتاح ويتيح المجال للأطراف غير العربيّة لبسط نفوذها بشكل شامل.
كما أن إستئناف القتل السياسي بعد إستهداف كوكبة من الشهداء في الحقبة التي تلت إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إنما يؤكد ضيق صدر الجهات التي تقف خلف الاغتيال ورفضها للرأي الآخر لا سيّما إذا كان يدينها في مكان معين ويكشف مشاريعها ومخططاتها.
لقد آن الأوان للإقلاع عن لغة التخوين وإطلاق التهم الجاهزة والمعلبّة بالعمالة، لمجرد مخالفة التيار السائد، ولمجرد الانتقاد السياسي للمسار المعتمد والسياسات المتبعة على أكثر من مستوى أم صعيد.
ثم، من هي الأطراف التي تتهم الآخرين بالعمالة؟ وما هو مفهوم العمالة بقاموسها؟ وهل ثمة تجزئة لهذا المفهوم؟ بمعنى آخر: هل يمكن لقوى معيّنة منغمسة بكل أطرافها بالتعاون مع محاور وأطراف خارجيّة (وتعترف بهذا الانغماس، لا بل تفاخر به)، وهي عمليّاً تقود وتنفذ مشاريع تلك المحاور أن توجه التهم إلى سواها؟ ألم يعد هناك سوى هذه اللغة البائدة المنقرضة لمخاطبة الآخرين وتالياً لإقصائهم؟ ألم يعد هناك من حجة سياسيّة يمكن توظيفها في إطار النقاش العام لإقناع الرأي العام بصوابيّة الخيارات؟ ألم يعد هناك سوى بعض الأبواق المستفزة التي تعكس ضعف حجتها السياسية بصوتها الملعلع وأدائها المسرحي على شاشات التلفزة، والتي غالباً ما تشوّه وجهة النظر التي تدافع عنها وتسير بها نحو المزيد من الانغلاق من دون أن تخلو من الاستعلاء والاستقواء البشع؟
لا يملك أحد صلاحيّة توزيع الشهادات بالوطنيّة خصوصاً إذا كان من فاقديها. ولا يملك أحد صلاحية إطلاق التهم بالعمالة خصوصاً إذا كان من ممارسيها.
فلتوضع الأمور بنصابها الصحيح، ولتترك الحرية في التعبير للجميع، فهذه واحدة من خصائص لبنان القديم الذي يتلاشى تدريجياً ويُجرّ نحو خيارات متناقضة مع تاريخه وتراثه في الانفتاح والحرية. ليس هذا الكلام شاعريّاً أو مجرد صف لكلمات منمقة، هو أسلوب حياة لا يمكن أن يُسلب من اللبنانيين أو يُسحب من طريقة حياتهم وعيشهم التي لطالما إعتادوا عليها.
قافلة الشهداء تستقطب المزيد من النجوم، وكأنه لا يكفي لبنان فقدانه اليومي للعشرات من أبنائه الذين تصطادهم “كورونا” أو يطالهم الفقر والحرمان والبؤس والشقاء.
لا يمكن أن يستمر لبنان على مسار هذا القدر البائس والحزين. في هذا البلد، الكثير من الكفاءات والكثير من الطاقات التي لا تبحث سوى عن القليل من الاستقرار لتمتلك الكثير من الأمل. هي قادرة أن تنهض بذاتها بمجرّد توفر الحد الأدنى من مقومات الصمود الاجتماعي، وهذا لا يتحقق إلا بإعلاء شأن الأخلاق في السياسة.
إن الانحدار الكبير في مستوى الأخلاق السياسيّة أوصل لبنان إلى القعر بعد أن كان يلامس القمم المرتفعة. دائماً ينتمي القتلة إلى فئة الجبناء الذين يتسللون ليلاً إلى الأماكن التي تتحوّل بعد أفعالهم الشنيعة إلى “مسرح للجريمة”. وكم من مسرح تبعثرت معالمه للقضاء على عناصر الحقيقة! ولكن، في القتل السياسي تحديداً، غالباً ما تكون شمس الحقيقة ساطعة وواضحة، لا تحتاج إلى الأدلة الجنائيّة سوى لتثبيتها!