فتحت «حرب الإسناد» بنتائجها الكارثية على حزب الله والبيئة الشيعية الحاضنة، الباب أمام التساؤل عن موقع الحزب في مرحلة ما بعد الحرب، واشتد التساؤل، واحتدمت المقاربات الجديرة بالقبول أو النقص مع المقاربات الخاطئة بجملة مقدماتها ومسلماتها، أو الوقائع التي تستند إليها، من زاوية المضي بالدعوات الجانحة إلى إقصاء الحزب عن المشاركة في العملية السياسية أو حتى إبطاء رأيه وموقفه مما حدث، إلى آخر ما ظهر ويظهر قبل انخراط المقاومة في الاشتباك في 8 ت1 (2023) إلى حين وقف إطلاق النار، أو هدنة الستين يوماً التي بدأت في 27 ت2، وتنتهي الأحد المقبل، مع العلم سيتم تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة.
وفتحت نهاية الحرب المفترضة في غزة، إذا ما أخذ اتفاق وقف النار، وتبادل الأسرى طريقه إلى التنفيذ في مهلة الستين يوماً المقبلة الطريق أمام إعادة تقييم الموقف بالنسبة لمحور المقاومة، بعد سقوط نظام دولة الممانعة في سوريا، وإبتعاد العراق إلى الجبهة الخلفية من المشهد، وانصراف إيران، المرشد، والحرس، والحكومة والرئيس إلى أخذ موقع لها في جيوبوليتكا الطاقة والإستثمار، بتكريس العلاقات الجيدة مع الاتحاد الروسي، والانفتاح باتجاه الصين، من دون قطع الاتصالات مع ما كان يسمى «بالشيطان الأكبر» أي الولايات المتحدة الأميركية.
يتقدم الجموح المالي والاقتصادي لدى ترامب إلى الواجهة الدولية من مسألة الطريق الاقتصادي للاستحواذ على الطاقة والاستثمار وتحويل الشرق الأوسط إلى سوق أميركي، مستفيداً من جملة الاتفاقيات التي رعاها سواءٌ في لبنان أو غزة أو سوريا، وفي عموم الشرق الأدنى والشرق الأوسط.. من مسألة الـ«تيك- توك» إلى مسائل الميزان التجاري والاتصالات، والأسواق المفتوحة، وعمليات التبادل التجاري، وانسياب السلع والبضائع، وشروط «الغات» والتجارة الدولية.
وهذا الجموح دفع بوزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو الى الاعلان، انه إذا تأثرت مصالحنا التجارية والجمركية، فسنرد بإرادة من حديد».
في مثل هذه الوقائع المتطاحنة بين «الثور الأميركي» الهائج وأوروبا التي أطلق عليها «اليانكي» اسم القارة العجوز، فضلاً عن الاقتصاديات الكبرى الصاعدة في العالم، كالاقتصاد الصيني، يلتقي الأميركيون والفرنسيون، ومعهم عرب الاعتدال على أرض لبنان لإعادة ربطه بمحور قائم، بعدما اندحر «المحور الممانع» إلى الوراء بفعل وقائع الحرب..
ومن أبرز النقاط التي ينشغل بها سفراء اللجنة الخماسية، ورؤساء الدول التي يمثلونها، كيفية التعاطي، مع إحدى أكبر جهات «المحور الضعيف» أو «المريض» وأكثرها تأثيراً: حزب الله، أو المقاومة الاسلامية في لبنان..
لقد تم انتخاب العماد جوزاف عون الآتي من صلب المؤسسة العسكرية، على غرار من سبقوه من رؤساء، آخرهم كان الجنرال ميشال عون، الذي وصفه أمين عام حزب الله السابق الشهيد حسن نصر الله «بالجبل في بعبدا» الذي يمكن أن تستند إليه المقاومة، والذي لا يرى أن الطوائف يمكن أن تحمي البلد (وهذه نقطة تباين كبرى مع حزب الله)، بل الدولة ممثلة بقواها العسكرية يمكن أن تحمي طائفة وكل الطوائف، فضلاً عن عزمه في خطاب القسم، على جعل الدولة وحدها قادرة على «احتكار السلاح» بمعنى أن السلاح خارج الدولة لن يكسب شرعية، حتى ولو كان سلاح المقاومة الاسلامية..
ولم يكن استبعاد الرئيس نجيب ميقاتي من رئاسة الحكومة مسألة «شخصية» أو مزاجية، بل خضعت للمعايير إياها المتعلقة باعادة تكوين معالم لبنان الجديد، الخارج من الحرب مع اسرائيل، ربما الى غير رجعة، والذهاب الى تطبيق القرار 1701، ثم الانصراف إلى الالتزام باتفاقية الهدنة 1949 كبديل للانخراط ضمن «مشروع ابراهيم» الترامبي، من اتفاقية السلام أو التطبيع، وفقاً لمعزوفات وزير الخارجية الأميركي في عهد جو بايدن أنتوني بلينكن.
طرح اسم الحقوقي والأكاديمي والدبلوماسي نواف سلام (1953) رئيساً للحكومة، ضمن التسوية الرئاسية، التي كانت مطروحة، وتتضمن صيغة فرنجية – سلام، ضمن توازن كان مطروحاً وقتها بين محور المعارضة (سلام) والممانعة (فرنجية).. (وبالتالي فإن تسمية ضمن مرحلة ما بعد الحرب، لا يعني انخراطاً بمشروع ما، على نحو نافر، بل ضمن الترتيبات الرئاسية إياها، لبسط سلطة الدولة، وإعادة الإعمار والتحرير والاصلاح المالي والمصرفي والاداري.
مهَّد لقاء الرئيس نبيه بري مع الرئيس المكلف الى لقاء بين سلام والنائب محمد رعد والنائب علي حسن خليل والحاج حسين خليل المعاون السياسي لحزب الله، للتباحث ليس في تسمية الوزراء، فالأمر المهم «للثنائي الشيعي» تدارك وصول تركيبة حكومية تحاصر المقاومة، وتعتبر أن الأولوية بعد جنوب الليطاني الى شماله، وسوى ذلك، وأرادت إدارة حوار الرئيس المكلف، من زاوية ما «يجمع أكثر مما يفرّق».. وهذا بحدّ ذاته إنجاز للاستقرار..
يبدأن للصورة وجهاً آخر، فالالتزام بالقرار 1701 يعني بحثاً بالسلاح وحملة السلاح، وبقرار انتشاره ودوره.. وهذا الجانب من الصورة لم يقبله بعد حزب الله.. لكن ما أتى به «الثور الهائج» إلى الساحة المحلية في لبنان، أعني حرب «الطوفان» وحرب المساندة أو حروب جبهات المساندة، طرح انتقالاً آخر للمشهد.. وبات على الحزب أن يتقبل آثار «الوقائع الملعونة» المتمثلة بالحرب (تصفيات احتلالات، تدمير، تفجير منصات الأسلحة.. وعمليات استخباراتية غير مسبوقة بتاريخ الحروب» وعلى قطب السلطة الجديدة، وسائر رؤساء الأحزاب أن يفهموا، ويتعاملوا، مع أن «الوقائع الملعونة» تثير الرعب لدى حزب الله وبيئته.. فـ «لاشيء يثير الرعب أكثر من الاغتيال السافل الحقير لنظرة جميلة بفعل وقائع ملعونة».
إذا كانت المسألة كيفية التعامل مع الوقائع الملعونة، يصبح كل شيء قابلاً اللهضم والمعالجة، بما في ذلك قبول حزب الله بأن فكرة المقاومة الجميلة تعرضت للاغتيال».