من الضاحية الجنوبية لبيروت إلى طهران وقبلهما الحُديدة في اليمن، كسر الكيان الاسرائيلي آخر قواعد الاشتباك التي كانت ناظمة للمواجهة منذ 8 اكتوبر، وقرّر ان يختبر صبر محور المقاومة وقدرته على التحمّل، مع ما ينطوي عليه هذا الاختبار من مجازفة كونه محفوفاً بالمخاطر وغير مضمون النتائج.
وفق ما شرحه الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطاب وداع القائد الجهادي فؤاد شكر، فقد مزّقت الصواريخ التي استهدفت الضاحية مجموعة خطوط حمر تتصل بهوية المكان وإيذاء المدنيين وطبيعة الشخصية القيادية المستهدفة.
ويُضاف الى ذلك، انّ نتنياهو تجاوز في الوقت نفسه «المحرّمات» في الصراع مع إيران من خلال اغتيال ضيفها اسماعيل هنية داخل عاصمتها، الأمر الذي مسّ ليس فقط بسيادتها بل بشرفها أيضاً تبعاً لما ذهب اليه «السيد»، وهو توصيف يؤشر إلى فداحة الخطأ الذي ارتكبه العدو والحجم المرتقب للردّ الإيراني.
وإذا كان أحد لا يعلم بالتفصيل ماذا دار بين نتنياهو والمسؤولين الاميركيين في الغرف المغلقة خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، الّا انّ قراره باستهداف قادة الصف الأول في محور المقاومة غداة عودته من واشنطن يوحي بأنّ الإدارة الأميركية ليست بعيدة من هذا القرار الذي يعكس تحوّلاً في مسار المواجهة، وبالتالي يحتاج إلى غطاء الحليف الاستراتيجي للكيان.
وقد نجح نتنياهو في دغدغة عواطف واشنطن و»شراء» دعمها او صمتها بالحدّ الأدنى عبر اختيار فؤاد شكر هدفاً للاعتداء على الضاحية، وهو الذي تتهمّه الولايات المتحدة بالمسؤولية عن تفجير مقرّ المارينز في بيروت عام 1983 وخصّصت جائزة مالية لمن يدلي بأي معلومات عنه، اي انّ لها حساباً قديماً معه، تطوّع رئيس حكومة الاحتلال لإقفاله.
ومن الواضح أنّ نتنياهو الذي يواجه إخفاقات ميدانية على جبهتي جنوب وشمال فلسطين المحتلة منذ عشرة أشهر، حيث لا يزال عاجزاً عن القضاء على «حماس» ودفع «حزب الله» إلى وقف إسناد غزة، انما أراد التعويض بشن «حرب الاغتيالات» التي يتفوّق فيها العدو ويمكن اعتبارها ملعبه، نتيجة القدرات الاستخبارية والتكنولوجية التي يملكها، الى جانب شبكات العملاء الأرضية.
وبهذا المعنى، فإنّ نتنياهو الذي يبحث منذ بداية العدوان عن «صورة» تعيد له بعض الاعتبار الذي جرفه طوفان الأقصى، وترمّم معنويات المستوطنين الساخطين على قيادتهم التي خذلتهم في 7 اكتوبر، انما يفترض انّه وجد ضالته في استهداف هنية وشكر، بفعل ما يمثلانه ويرمزان اليه على مستوى محور المقاومة.
لكن، إذا كانت طبيعة الشخصيات والأمكنة المستهدفة سمحت لنتنياهو بتصوير ما حصل كإنجاز نوعي له ونكسة لاعدائه، غير انّ التدقيق قليلاً في ما جرى يُبين انّ مفعول «الصورة» التي اقتنصها في الضاحية وطهران من بين الركام هو نفسي ومحدود الصلاحية، وليس من شأنه ان يترك تداعيات حادّة على البيئة الاستراتيجية للمعركة التي تخوضها المقاومة في قطاع غزة وجنوب لبنان.
وبناءً عليه، بدا خطاب السيد نصرالله وكأنّه طوّق مفاعيل اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر، عبر تثبيت المسارات الآتية:
– تأكيده القدرة على احتواء صدمة الاغتيال وملء الفراغ الذي تركه الشهيد شكر، امتداداً لتجارب سابقة اثبتت انّ جسم المقاومة يستطيع إنتاج البدائل وتحويل التهديد فرصة، وذلك استناداً إلى مخزون ثقافي وخبرات متراكمة، ما مؤداه انّ المقاومة ليست مختزلة بأشخاص مهما بلغت أهميتهم.
– إعلانه عن استئناف جبهة الإسناد الجنوبية نشاطها الطبيعي ابتداءً من اليوم، وعودتها الى ما كانت عليه قبل اغتيال شكر.
– تشديده على أنّ لا حل ولا إمكانية لتفادي الأسوأ، مهما تصاعدت الضغوط وارتفعت الأثمان، إلّا بوقف العدوان الاسرائيلي على غزة.
– جزمه بأن الردّ على اغتيال شكر واستهداف الضاحية هو محسوم وحتمي ولن يكون شكلياً «وبيننا وبينكم الايام والليالي والميدان».
ولئن كان العدو قد تحكّم بإدارة المسرح بعد حادثة مجدل شمس وفرض على الآخرين انتظار ما سيفعله، فقد صار لزاماً عليه ان يتجرّع من الكأس نفسها، وان ينتظر بأعصاب مشدودة ومتوترة كيف سيردّ «حزب الله» الخبير في الحرب النفسية ضدّ الكيان.
صحيحٌ انّه لا يمكن الجزم بشكل الردّ وحجمه وسط تعدّد الخيارات والاحتمالات، إلّا انّ الأكيد هو انّ الحزب لن يقبل بأن يفرض عليه الاحتلال قواعد جديدة للمواجهة، ولن يسمح بإضاعة المكتسبات التي حقّقها منذ 8 اكتوبر على مستوى معادلة الردع، حتى لو ادّت عملية إعادة تصويب المسار وتقويم الإعوجاج الى التدحرج المتدرّج نحو حرب شاملة.
ومع انّ الحزب لا يريد الحرب الواسعة، غير انّه يرفض ان تكون كلفة هذا الخيار القبول بالأمر الواقع الذي يحاول الاحتلال فرضه، عبر محاولة تثبيت قواعد معدّلة للمواجهة، من نوع منح نفسه حق اغتيال قائد كببر في الحزب في عمق الضاحية الجنوبية بذريعة الردّ على صاروخ مجدل شمس الذي لم يطلقه الحزب أساساً.
وبناءً عليه، يجد الحزب نفسه ملزماً بردّ من الوزن الثقيل يصحح الخلل المستجد في توازن الردع، وعلى الاسرائيلي حينها إما ابتلاع الضربة والتغاضي عن كون الكلمة الأخيرة في هذه الجولة لـ»حزب الله»، وإما الردّ عليها وتحمّل مسؤولية ما يمكن أن يجرّه ذلك من تبعات وتداعيات.
واللافت، انّ «السيد» تعمّد ان يضفي مسحة من الغموض على سيناريو ردّ الحزب، متقصداً التلاعب بأعصاب جمهور الكيان وقيادته، وتاركاً لمخيلتهما ان تنشط في هذا المجال، الى حين ان يبوح الميدان بأسراره.
لقد اكتفى «السيد» بإعطاء إشارات قليلة وانما مكثفة، تفيد بأنّ الضربة المضادة التي تخطّط لها المقاومة ستكون موجعة وليست استعراضية، الّا انّ اللافت في الوقت نفسه إشارته الى انّ محور المقاومة يقاتل بغضب وحكمة في آن واحد.
والى ان يتضح ما ستحمله الايام المقبلة من تطورات، تعوم على السطح تساؤلات عدة من نوع:
– هل سيردّ محور المقاومة مجتمعاً وبشكل مشترك على الكيان الاسرائيلي، بعدما هاجم الضاحية وطهران والحديدة، ام انّ كل ساحة ستردّ على نحو منفصل وفق معاييرها وخصوصياتها؟
– ما هي أحجام الردود وأوزانها، وهل سيستطيع العدو تحمّلها أم سيغامر برفع سقفه اكثر؟
– هل مجموع الضربات المتبادلة سيفضي الى الحرب الشاملة التي قد تصبح مفروضة بقوة دفع ذاتي بمعزل عن عدم حماسة الأطراف لها، ام انّها ستظلّ مستبعدة حتى إشعار آخر خصوصاً انّ الجميع يتهيّبونها؟
– ماذا عن فعالية «ضابط الإيقاع» الاميركي بعدما تعزّز الاقتناع لدى المحور عقب الضربتين الاسرائيليتين في الضاحية وطهران انّه لا يمكن الوثوق في دوره، وهل لا تزال إدارة بايدن تستطيع التأثير على نتياهو (هذا اذا أرادت ذلك) ام انّ تنحّي الرئيس الأميركي عن السباق الانتخابي أضعفها؟