هدّدت إسرائيل علناً باغتيال قادة «حماس». لم تستثنِ أحداً من الموجودين في غزة أو الضفة أو في الخارج. وليس في ذلك التهديد ما يفاجئ. فإسرائيل تخوض منذ قيامها حرباً مفتوحة ضدّ كلّ من يقاوم احتلالها وسيطرتها على فلسطين. رفضها الاعتراف بوجود شعب فلسطيني قبل رفضها الاعتراف بحقوقه الوطنية يقودها إلى هذه الحرب المفتوحة، فإما هي وإما هو على أرض فلسطين.
كتب المعلّق الإسرائيلي نحوم برنياع في «يديعوت أحرونوت» قبل أيام أنّ «اللغة الوحيدة التي يفهمونها في الشرق الأوسط هي: «من يأتِ لقتلك فاسبقه واقتله». هذا صحيح في المبدأ، لكنّ إسرائيل هي التي بدأت القتل. منذ البداية، قامت على مبدأ الخلاص من شعب مقيم في أرضه لتقيم مكانه وعلى أرضه دولة خاصة بها، لشعب آخر وهوية أخرى.
ضمن هذا المنطق لن تنتهي الحرب على أرض فلسطين. وما يجري في غزة تجسيد لنظرية «أسبقه واقتله». فحرب الإبادة التي جعلت واحداً من كل مئة فلسطيني في القطاع قتيلاً، وشرّدت مئات الألوف وجعلتهم مشروع لاجئين جددٍ إلى بقاعٍ أخرى، هي تطبيق للمشروع الإسرائيلي الأصلي، البعيد المدى، القائم على إخلاء الأرض من سكانها، وتنفيذ لسياسة الترويع تحقيقاً لأهدافٍ أقرب قوامها عزل المقاومة الفلسطينية في بيئتها ودفع الناس الجائعين والمشرّدين إلى التخلّي عنها. سياسةٌ كهذه ليست جديدة في تاريخ الحروب. النازيون اتّبعوها لإركاع لندن وموسكو وباريس، واضطرّ الحلفاء إلى انتهاجها لكسر شوكة النازي، وكلّفت ليلة واحدة من القصف على هامبورغ الألمان 55 ألف قتيل من المدنيين. إسرائيل تفعل الأمر نفسه في غزة منذ ثلاثة أشهر، لكنها بدأت تشعر بالمراوحة. النصر الذي أرادته سريعاً لم يتحقّق بسبب استمرار المقاومة في غزة تحديداً وليس لأي سبب آخر. لا خطابات المحور الإيراني أزعجتها، ولا مناوشات الجنوب اللبناني، ولا استعراضات الحوثي البحرية، وبالتأكيد ليست قذائف الحشد العراقي على قواعد الأميركيين في شرق سوريا والعراق ما أثار قلقها.
والمقاومة في فلسطين هي من طبيعة الأشياء. لا يمكن انتظار شيء آخر من شعب يُراد إخضاعه وسلبه حياته وكرامته وأرضه. كل الشعوب تقوم بما يقوم به الشعب الفلسطيني عندما تتعرّض لما يتعرّض له، وهنا المأزق الإسرائيلي الحقيقي.
إنتقال إسرائيل إلى الاغتيالات هو تعبير عن هذا المأزق. «يبدو أن الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي قد انتقلا (مع اغتيال صالح العاروري في بيروت) إلى التركيز على المسّ بكبار «حماس» كصورة نصرٍ محتملة»، تقول صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية. و»على الرغم من أن إسرائيل أعلنت أنها تنوي تصفية جميع القادة، فإنهم (قادة حماس) يعترفون أن تواجدهم في قطر يوفّر لهم فرصة تأمين… أيضاً في تركيا، من غير المؤكد أن إسرائيل معنية بتصعيد العلاقات الآن مع أردوغان، لبنان (وحده!) كان ساحة الاغتيال المأمولة».
ماذا عن ردود فعل الساحات؟ الانضباط سيد الموقف. ردّ « الساحات» رسمه الحرس الثوري الإيراني منذ اللحظة الأولى: «إنها محاولة إسرائيلية لدفع المقاومة للوقوع في خطأ استراتيجي بالحسابات»، قال بيان الحرس عن اغتيال العاروري. بيان يكشف حدود التضامن والمساندة، لكنه جدير بأن يأخذه الفلسطينيون أنفسهم في الاعتبار. فهم الضحايا والمقاومة وعلى وحدتهم وبرنامجهم الوطني الموحّد يتوقف مستقبل جهودهم وتضحياتهم. وما على الفلسطينيين أخذه في الاعتبار يجدر بالمساندين الآخرين استيعابه، فوحدة واستقلال لبنان لهما الأولوية، كذلك إنجاح الحوار في اليمن وخروج العراق وغيره من ثنائيات الميليشيات والدولة، ولمصلحة الدولة ومؤسساتها الدستورية.