IMLebanon

إغتيالات وقادة ومسارات: جنبلاط والصدر وبشير الجميل والحريري (1من 2)

 

على رغم مرور 19 عاماً على اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، لا يزال صدى الإنفجار الكبير في وسط بيروت يدوّي في كل لبنان وكأنّه حصل الآن. لم ينسَ اللبنانيون تلك اللحظة التي فجّرت معها أركان الدولة وهزّت معالم الكيان والعلاقات بين مكوِّناته، وذكّرت باغتيالات مماثلة طالت قادة طوائف وأحزاب، كمال جنبلاط، وموسى الصدر، وبشير الجميل الذين اختصروا وجدان طوائفهم وجماعاتهم فكان اغتيال القائد بمثابة اغتيال لِما ومَن يُمثّل.

القادة الأربعة مثّلوا في حضورهم الواعد وغيابهم الصاعق قمة الأمل والرجاء وقمة الإنسحاق في سقوط الحلم وهول الجريمة. وكان على من يتبعهم أن يملأ الفراغ الهائل الذي تركوه. نجحت المحاولات أحياناً وفشلت أحياناً أخرى، ولكنها دائماً كانت محاولات مغمّسة بالتعب والمعاناة وبصور الإغتيال والدم والطريق الصعب والأحلام المستحيلة والمستعصية لأربع طوائف أساسية مكونة للكيان اللبناني: المسيحيون والدروز والسنة والشيعة.

 

كمال جنبلاط والمجهول المعلوم

 

في 16 آذار 1977 اغتيل كمال جنبلاط. صيغة المجهول لا تنفي هوية القاتل والمنفّذ. عندما يُذكر فِعلُ القتل بهذه الصيغة، يحضر اتهام النظام السوري بتنفيذ الجريمة حتى لو لم تتم تسميته مباشرة أو محاكمته. على رغم هذا الوضوح الذي ظهر من خلال التحقيقات الرسمية، لا تزال صيغة المجهول تُستخدَم في التذكير بالحدث الكبير وكأنّه لم تعد هناك حاجة لتأكيد المؤكّد.

 

مثّل كمال جنبلاط أحلام جيل من اللبنانيين الذين آمنوا بقدراته السياسية القيادية وكانوا من كل الطوائف ولكن في النتيجة النهائية بقي يوصف بأنه زعيم الدروز في لبنان وربّما في المنطقة حيث يعيشون في سوريا وفلسطين والأردن.

 

منذ العام 1949 دخل جنبلاط مسرح السياسة اللبنانية المليء بالمفاجآت والتناقضات والحافل أيضاً بالتسويات التي طالما اعتبر أنها جزء من اللعبة السياسية ولكنّه في النهاية اختار في العام 1976 أن لا يعقد مثل هذه التسوية مع النظام السوري ورئيسه حافظ الأسد رافضاً الدخول إلى ما سمّاه «هذا السجن الكبير». اختار جنبلاط أيضاً أن يكون في «الحزب التقدمي الإشتراكي» الذي أسّسه، لبنانيون من كل الطوائف استهواهم الطرح والفكر، وجذبتهم المحاولة، وشدّهم الشخص.

 

واختار أيضاً أن تكون «الحركة الوطنية» الإطار الأوسع الذي يضم أحزاباً وشخصيات تنادي بالتغيير في لبنان. ولكنّه ذهب إلى ما لم يستطع لبنان أن يتحمّله من خلال المطالبة بتغيير النظام، والعمل على إحداث هذا التغيير بالقوة وبالسلاح وبالحرب، متعاوناً مع منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات. ولكن لا لبنان كان قادراً على تحمّل هذا العبء ولا حافظ الأسد عاد قادراً على احتمال خطر كمال جنبلاط وتحالفه مع عرفات، فكان الكمين الذي أعدّه عناصر من المخابرات السورية للزعيم الدرزي على طريق بعقلين دير دوريت، فتم خطفه قبل قتله وتركه في سيارته مع مرافقيه في المكان.

 

وليد جنبلاط يتسلّم القيادة

 

كان وليد جنبلاط في بيروت عندما اتصل به سليمان تقي الدين ليبلغه بالخبر الصاعق «قتلوه». قاد سيارته واتجه إلى قصر المختارة الذي كان ابتعد عنه لخلاف بينه وبين والده. هناك كان الحدث الجلل حاضراً وكانت ردة الفعل الفورية الشعبية الدرزية تقضي على أكثر من 170 مسيحياً آمنين في قراهم. عمل وليد جنبلاط على احتواء ردة الفعل، وكان على يقين أنّ من قُتِلوا أبرياء، وأنّ النظام السوري يقف وراء العملية التي كانت بمثابة قتل معلن لا يحتاج إلى تحقيق. هناك في قصر المختارة الذي يختصر تاريخ عائلة وطائفة وجبل، سارع شيخ عقل الدروز محمد أبو شقرا إلى إلباس «الوليد» عباءة الزعامة الدرزية. ولكن على رغم كل ذلك كان وليد جنبلاط بعد مرور أربعين يوماً على اغتيال والده يزور حافظ الأسد في سوريا وهو عالم علم اليقين أنه يصافح قاتل والده من دون أن يغفر له أو ينسى. كان يتجاوز الشعور الشخصي إلى حين يسمح له الزمن بالوقوف فوق الجسر يراقب جثته تمر من تحته.

 

استطاع وليد جنبلاط أن يرث كمال جنبلاط في كل شيء، في السياسة والزعامة والدور، وأن يعود إلى كتابه وسيرته ويتصالح معه. وتسنّى له أن يتربّع على كرسي تلك الزعامة منذ ذلك التاريخ عابراً محطات دامية في حرب الجبل مع «القوات اللبنانية»، متحالفا مع النظام السوري الذي كان يريد أن يستعيد حضوره ودوره في لبنان بعد الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 واغتيال بشير الجميل. ولكنّ وليد جنبلاط نفسه كان قادراً في العام 2000، بعد وفاة حافظ الأسد، على ملاقاة بطريرك الموارنة مار نصرالله بطرس صفير في مطالبته بانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي في أيار من ذلك العام، وفي الذهاب إلى مصالحة تاريخبة في آب 2001 توِّجت بزيارة صفير قصر المختارة والشوف وعاليه. قطب المصالحة الثالث كان رفيق الحريري والحاضر الأكبر فيها كان «القوات اللبنانية»، على رغم أن رئيسها سمير جعجع كان قيد الإعتقال منذ 21 نيسان 1994، في فعل بديل عن القدرة الفعلية على اغتياله الجسدي كمكمِّل لإرث مثَّله بشير الجميل الذي اغتيل في 14 أيلول 1982.

 

تحوّلات وانقلابات وتسليم

 

لم تتوقّف مسيرة وليد جنبلاط القيادية عن صنع التحولات فكان قادراً أيضاً على زيارة منزل سمير جعجع في يسوع الملك، أواخر العام 2004، والمطالبة بعودته إلى الحرية والعمل السياسي قبل أن يتولى قيادة حركة 14 آذار 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري والمطالبة بسحب الجيش السوري من لبنان، ويخوض المواجهة ضد «حزب الله» المتهم باغتيال الحريري، وصولاً إلى 7 أيار 2008 عندما تحرك «حزب الله» عسكرياً ضده وضد «تيار المستقبل» ووريث الحريري ابنه سعد، في بيروت والجبل، لينهي الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود.

 

منذ العام 1977 استمرّ وليد جنبلاط على رأس القيادة السياسية في الحزب التقدمي الإشتراكي وفي الطائفة الدرزية. عبَر أكثر من محطة ومرحلة حتى يأخذ القرار بتسليم القيادة إلى ابنه تيمور معتبراً أنّه اجتاز أكثر من قطوع أمني وسياسي متخطياً قدر رجالات العائلة الذين انتهوا اغتيالاً، ليسلم الأمانة من دون أن يتخلّى عن دوره الطليعي، بحيث يبقى القائد والزعيم، ويبقى تيمور في ظلّ هذه القيادة والزعامة متلمّساً طريقه نحو بناء زعامته الخالصة مع الوقت.

 

الإمام الصدر وبداية القيادة

 

مَثَل الإمام موسى الصدر لا يشبه مَثَل كمال جنبلاط، وقدر الطائفة الشيعية لا يشبه قدر الدروز. لم يأتِ الصدر إلى العالم اللبناني من جذور عائلية أو سياسية خالصة وهوية خاصة، بل كان طليعة هذا الدور الذي خلقه بحضوره الديني والسياسي والشعبي. لم يكن للشيعة زعيم واحد بل زعماء سياسيون ولم يكن لهم زعيم ديني، وعندما وصل الصدر إلى لبنان أواخر الخمسينات آتياً من الحوزات الدينية في قم في إيران وفي النجف في العراق، ومن جذور عائلية لبنانية، صار هو ذلك الزعيم الذي بنى هذه الزعامة بالصبر وبقوة الحضور والشخصية، فملأ الفراغ الذي كان يبحث عن قائد يملؤه.

 

في 31 آب 1978 اختفى الإمام موسى الصدر في ليبيا. بعد 46 عاماً على هذا الغياب لم يعد من المنصف الحديث عن إخفاء الإمام أو تغييبه. بات هذا الغياب تأكيداً على فعل اغتيال نفّذه النظام الليبي بقيادة العقيد معمر القذافي، في وقت لم يكن قد ظهر بعد إلى العلن الصراع السني الشيعي في المنطقة، وإن كان حدث الإخفاء، الإغتيال، تزامن مع عودة الزعيم الديني الشيعي الإمام الخميني إلى طهران وسقوط نظام الشاه، وقيام الجمهورية الإسلامية التي سترسم مساراً جديداً للصراع الديني والسياسي في المنطقة كلّها. وإذا كان اغتيال كمال جنبلاط ثابتاً بالدليل الحسّي وحاضراً بالجسد والأدلة، فإنّ «اغتيال» موسى الصدر بقي من دون هذا الدليل بفعل إخفائه وإخفاء أي أثر له حتى تبقى غيبته حلماً يراود الشيعة بعودته يوماً ما. عودة لن تتحقّق في أي يوم طالما أن الطائفة الشيعية تغيّرت وتبدّلت أحوالها بعيداً عما كان يريده الإمام الصدر لها بحضورها اللبناني وبجذوره اللبنانية.

 

إنقلاب معاكس

 

لم تكن وراثة الإمام الصدر ودوره مهمة سهلة. كان اغتياله بداية تغيير كبير في مسار الطائفة الشيعية في لبنان. صحيح أنّ حركة «أمل» التي أسّسها الإمام لتكون ابنة حركة المحرومين وأفواج المقاومة اللبنانية استمرت بقيادة الرئيس نبيه برّي، ولكنّ برّي لم يرتقِ إلى مستوى زعامة الصدر الدينية والسياسية. هذه الزعامة سيرثها «حزب الله» الآتي من رحم الثورة الإسلامية في إيران ومن عقيدة ولاية الفقيه التي كان يجب أن تتحقّق أولاً من خلال القضاء على دور حركة «أمل» وإرث الإمام موسى الصدر داخل الملعب الأساسي في الطائفة الشيعية في لبنان، قبل الإنتقال إلى السيطرة على قرار الطوائف الأخرى بالحديد والنار وبالسلاح الذي يحمي السلاح الذي هو من صلب عقيدة الحزب، والسيطرة بالتالي على قرار الدولة التي لا يعترف بها وبنظامها إلا من خلال إخضاعها، طالما يعمل لتكون هذه البلاد، التي اسمها لبنان، جزءاً من دولة ولاية الفقيه التي يقودها الإمام في إيران.

 

دخول «الحزب» إلى البرلمان النيابي بعد العام 1992، اقتضى فتاوى دينية تسمح له بذلك. ودخوله إلى الحكومة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري اقتضى فتوى مماثلة لاجتياز هذا المعبر، ليس لسبب إلا لأنه يؤمِّن العبور نحو الهدف الأساسي الذي يعمل له. واغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يكن إلا محطة من محطات العبور هذه بعدما أيقن أن الرجل قد يكون عقبة أمام تحقيق أهدافه بحيث أنّه لم يتوان عن اعتبار أن المتّهمين باغتياله قدّيسون نفّذوا مهمة مقدّسة.

يتبع السبت 17 شباط: اغتيال بشير الجميل ورفيق الحريري