كما تاريخ 16 آذار 1977 يوم اغتيال كمال جنبلاط، و31 آب 1978 تاريخ إخفاء أو اغتيال الإمام موسى الصدر، هكذا يحضر يوم 14 أيلول 1982 ذكرى اغتيال الرئيس بشير الجميل و14 شباط 2005 ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أربعة تواريخ لأربع نهايات لأربعة قادة طوائف، الدروز والشيعة والسنة والمسيحيين.
القادة الأربعة معروفون وتاريخهم معروف وقَتَلتهم معروفون. مسلحون من المخابرات االسورية اغتالوا كمال جنبلاط، توصّل التحقيق إلى تحديد هوياتهم وأسمائهم وطريقة تنفيذهم للجريمة، ولكنّ التهديدات السورية منعت استكمال التحقيق وأُقفِل الملف بقبول لاحق من وليد جنبلاط الذي عرف الحقيقة وكان يعرف أن المحاكمة مستحيلة.
الإمام موسى الصدر اختفى في ليبيا حيث لا يهم من ارتكب فعل الإخفاء أو القتل في نظام كان يحكمه ويتحكّم في كلّ شيء فيه رئيسه العقيد معمر القذافي، الذي كان وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري في العام 1969 وهو بعمر 27 عاماً ليحكم ليبيا بقبضة من حديد. منذ 46 عاماً حقيقة إخفاء الإمام ثابتة، أمّا حقيقة هويات الذين نفّذوا لم تظهر بعد على رغم النهاية المأسوية للقذافي مقتولاً في 20 تشرين الأول 2011، وعلى رغم تصفية واعتقال ما تبقى من رجالات عهده. وعلى رغم كل هذا الزمن لا يزال ملف قضيته مفتوحاً بانتظار جلاء ما صار من الصعب جلاؤه.
إغتيال الحلم بوطن حقيقي
في 14 أيلول 1982 اغتيل بشير الجميل بعد 21 يوماً على انتخابه رئيساً للجمهورية. القاتل المباشر معروف، حبيب الشرتوني. نفّذ العملية بواسطة عبوة ناسفة زُرِعت في الطابق الأول من بناية بيت الكتائب في الأشرفية حيث كان الشيخ بشير يعقد اجتماعاً مع حزبيين. اعتُقِل وبقي ثمانية أعوام في السجن قبل أن تطلقه القوات السورية من سجن روميه في 13 تشرين الأول 1990، وهو لا يزال فارّاً من وجه العدالة على رغم أنّ المجلس العدلي عاد وحكم عليه بالإعدام. المتهم الثاني نبيل العلم مات خارج لبنان. باستثنائهما، بقيت القضية مقيّدة ضد مجهولين وإن كانت المعطيات ذهبت في اتجاه إلقاء المسؤولية على النظام السوري وأجهزة مخابرات فلسطينية وسوفياتية وليبية.
مثل بشير الجميل اغتيل رفيق الحريري بعبوة ناسفة، ولكن مع اختلافات كبيرة. اغتياله تمّ بعملية انتحارية في وسط بيروت قرب فندق السان جورج، والعبوة التي وُضِعت في شاحنة ميتسوبتشي قادها انتحاري لم تتحدّد هويته كانت كناية عن أكثر من طن ونصف طن من المتفجرات. عبوة اغتيال بشير الجميل كانت كناية عن نحو أربعين كيلوغراماً تقريباً من المتفجرات. لو قُدِّر للتحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري أن يبقى ضمن إطار مسؤولية القضاء اللبناني لكانت بقيت مقيّدة ضد مجهول، ولما حصلت فيها محاكمة كما في قضيتي الصدر وجنبلاط. قرارا مجلس الأمن الدولي تشكيل لجنة تحقيق دولية ثم محكمة خاصة أدّيا إلى كشف أسماء الذين نفّذوا عملية الإغتيال وكانوا أربعة من «حزب الله». وهم كما حبيب الشرتوني فارّون من وجه العدالة.
ذكرى لا تموت
دُفِن كمال جنبلاط في حديقة قصره في المختارة. في كل عام في 16 آذار يضع وليد جنبلاط ورفاق له ومناصرون ورداً على ضريحه ويتذكّرون. لا ينطبق هذا الأمر على الإمام موسى الصدر الذي لا يزال مخفيّاً ولا ضريح له ولا تمثال. فقط في كل 31 آب من كل عام تحيي حركة «أمل» برئاسة الرئيس نبيه بري الذكرى في احتفال في صور. هناك في ساحة القسم شيّعت في 7 شباط الحالي ثلاثة من عناصرها قضوا نتيجة غارة إسرائيلية.
دُفِن الرئيس بشير الجميل، قائد «القوات اللبنانية»، في مدافن العائلة في بكفيا. في كل 14 أيلول من كل عام تتذكّره العائلة في قدّاس على نيته في بكفيا بعدما كان يقام في الأشرفية. هناك في ساحة ساسين يرتفع نصبه التذكاري الذي يذكِّر بكل سيرته ونضاله واستشهاده مع رفاقه. ولكن الذكرى الأكبر والأهم تبقى تلك التي تحييها «القوات اللبنانية» منذ العام 1991 في الأحد الأول من أيلول على نيته ونية شهداء المقاومة اللبنانية كلّهم والتي باتت حدثاً سنوياً يقام في مقر حزب «القوات» في معراب. كثيرون من رفاق بشير الجميل اعتبروا، أو تصرفوا، وكأنّ الزمن توقّف ذلك اليوم في 14 أيلول. كثيرون يَحيَون على ذكريات معه تسبق ذلك التاريخ، ولكنّ كثيرين اعتبروا أنّهم منذورون لحمل القضية التي قاتل وعاش من أجلها بشير ومن أجلها استشهد.
سمير بعد بشير
لم يكن من السهل متابعة الطريق الذي رسمه بشير. كان من الممكن أن تنتهي «القوات اللبنانية» مع اغتياله ولكن «القوات» كانت أقوى من أن تكون لها مثل هذه النهاية. لم يكن اغتيال بشير محاولة لاغتيال «القوات» فقط بل لاغتيال الحلم الذي مثّله. الحلم بوطن حقيقي. استطاع سمير جعجع أن يستعيد قوة المبادرة بعد انتفاضة 12 آذار في العام 1985، ثم بعد إسقاط الإتفاق الثلاثي في 15 كانون في العام 1986. لم تكن مسيرة استعادة الخيار والقرار سهلة مع خروج حالات من داخل «القوات» ومن بين أسماء كانت اقتربت من بشير الجميل في مرحلة معينة لأخذ «القوات» إلى خيارات لا تشبهها أو للقضاء عليها.
مثّل إيلي حبيقة الحالة الأخطر التي خرجت على «القوات» من رحم «القوات» بعد 9 أيار 1985 ومحاولته فرض الإتفاق الثلاثي بالقوة. ولكنه سقط مع سقوط الإتفاق وعاد في العام 1990 من البوابة السورية بعدما فشلت محاولة عودته بالإختراق الأمني في 27 أيلول 1986. ومثّل ميشال عون الحالة الثانية التي حاولت أن تقضي على «القوات» من خلال حرب الإلغاء التي شنّها عليها في 31 كانون الثاني 1990. وحاول النظام السوري بعد إنهاء حالة عون في 13 تشرين الأول 1990 أن يقضي على «القوات» من خلال سلطة الوصاية التي نصّبها على لبنان. ولكن سمير جعجع كان أقوى من محاولة إلغائه وإلغاء «القوات». بقي 11 عاماً في السجن قبل أن يستعيد حريته. لو لم يكن هناك روح لخط بشير الجميل داخل «القوات» لما كانت اجتازت كل تلك المراحل مع سمير جعجع، ولكانت ذهبت مع إيلي حبيقة إلى دمشق أو مع ميشال عون إلى «حزب الله» وإيران، ولما كان لها هذا الحضور السياسي القوي اليوم في نضال مستمرّ من أجل استعادة جمهورية بشير.
قصة صعود رفيق الحريري
دخل رفيق الحريري بقوة إلى الساحة اللبنانية بعد اغتيال بشير الجميل. كانت مهمته تنظيف بيروت من أجل عودة السلطة إلى الدولة بعد انسحاب جيش النظام السوري وقوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. منذ ذلك التاريخ بدا وكأنّ هدف النظام السوري كان أن يخوض سباق العودة إلى بيروت. عاد عسكرياً وأمنياً وسياسياً في 27 شباط 1987 وأمّن له ميشال عون طريق العودة بعد تداعيات حربي التحرير والإلغاء. منذ العام 1991 تحكّم النظام السوري بكل الوضع اللبناني. في ظل هذا التحكم بدأ مشوار صعود رفيق الحريري. وفي الوقت نفسه كان بدأ مشوار صعود «حزب الله». قوتان كان من الصعب أن تتعايشا.
كان دخول رفيق الحريري إلى اللعبة السياسية هادئاً ولكنه لم يبقَ كذلك. خطا خطوة كبيرة في انتخابات العام 1996 وأسّس لقوة شعبية ونيابية. كان النظام السوري بحاجة إليه وإلى دوره بحكم رعاية المملكة العربية السعودية لهذا الدور، ولكنّ هذا النظام عمل دائماً على احتوائه ومحاصرته. الحصار الأكبر كان مع انتخاب الرئيس إميل لحود رئيساً للجمهورية. ولكن الحريري ردّ في انتخابات العام 2000 بالتحالف مع وليد جنبلاط. وعندما لم تنجح محاولة تطويقه وخوفاً من دوره بعد صدور القرار 1559 عام 2004، بدأ التخطيط لاغيتاله. ونفذ هذا الإغتيال في 14 شباط. كان اغتياله محاولة لبقاء «حزب الله» وجيش النظام السوري في لبنان ولكن شاء القدر أن يكون سبباً في انسحاب الجيش السوري.
سعد الحريري والوراثة الصعبة
مثل بشير الجميل وموسى الصدر وكمال جنبلاط اختصر الحريري وجدان الطائفة السنية، وكانت له امتدادات في مختلف المناطق والطوائف نزلت كلها في 14 آذار 2005 لتطالب بالسيادة والحرية والإستقلال. في ظل هذا الجو التصاعدي ورث سعد الحريري مهمة رفيق الحريري. ولكن مهمته لم تكن سهلة. لم تكن تجربته مشابهة لتجربة وليد جنبلاط مثلا في وراثة دور كمال جنبلاط. ولا كانت مشابهة لتجربة سمير جعجع الذي كان عليه أن يغامر في أحيان كثيرة لكي يبقى ويستمر. العبء الذي أُلقِيَ على كتفي سعد الحريري لم يكن من السهل احتماله. لذلك صمد أحياناً وضعف أحياناً. خاض تجربة الإنتخابات النيابية أعوام 2005 و2009 و2018، ورئاسة الحكومة أكثر من مرة قبل أن يعتكف في كانون الثاني 2022.
في 14 شباط 2024 عاد إلى ضريح رفيق الحريري. إلى التجربة التي لم يعش فصولها قبل اغتياله. كان رفيق الحريري رجل مواجهة حتى الإغتيال. امتدت تجربته في الحكم 13 عاماً. تلك التجربة تحتاج إلى استعادة وربما يحتاج سعد الحريري إلى بداية جديدة بعد تجربة استمرّت 17 عاماً واعتكاف مستمر منذ عامين. قال في 14 شباط «كل شي بوقتو حلو». لا يزال هناك الكثير من الوقت أمامه ولكن هل يأتي الوقت الحلو بعد الزمن الصعب؟ وعلى ماذا يراهن سعد الحريري بعد كل هذه التجربة ومن أي باب سيعود؟ وكيف سيعود؟ وهل ستكون لديه بداية جديدة؟