لم يتحدث «حزب الله» بعد. الصمت ميزة كل قيادييه منذ الغارة الإسرائيلية التي أوقعت ستة شهداء في الجولان المحرر. ما يزال رد الحزب محصوراً ببيانين مقتضبين، الأول أكد فيه حصول الاستهداف، وهو ما فُسّر على أنه «اعتراف ووعيد»، والثاني نعى فيه شهداءه. وسائل الإعلام وقياديو العدو تكفلوا بملء الفراغ. جزموا أن الرد آت لا محالة.. وتركوا، بطبيعة الحال، للحزب تحديد المكان والزمان. جل ما استطاعوا فعله هو طمأنة قاطني مستوطنات الشمال أن الرد لن يكون سريعاً ولا داعي لفتح الملاجئ.
أبعد من الرد العسكري، يمعن «حزب الله» في قراءة الاستهداف الذي وحّد، رسمياً، الجبهتين السورية واللبنانية. وهو إذ يشيّع شهداءه، ينكبّ مسؤولوه على تحضير الأرضية اللازمة لمرحلة ما بعد الاستهداف التي فتحت الباب رسمياً أمام معادلة ردع جديدة تضع شمال فلسطين المحتلة، من الناقورة إلى القنيطرة، في خانة واحدة. لا نقاش في أن ما قبل العملية ليس كما بعده.
مسارعة قائد الجبهة الجنوبية الإسرائيلية السابق يواف غالنت لربط عملية الاغتيال بالانتخابات الإسرائيلية وضع أول نقطة على الحروف السياسية للعملية. وظيفتها، بالنسبة لغالنت، هي «الترويج سياسياً لنتنياهو باعتباره واحداً من أبرز القادة أو المسؤولين الحريصين على أمن إسرائيل».
لا يشكك مصدر قريب من المقاومة بأهمية هذا العامل، خاصة أن غالنت نفسه لديه في أرشيفه العسكري دليل على أن قرار اغتيال القيادي الفلسطيني محمود الجعبري لم يتخذ إلا ربطاً بالانتخابات الإسرائيلية، بالرغم من أن الأمر كان متاحاً أكثر من مرة. ذلك عامل، لكنه ليس كافياً لتتجرأ إسرائيل على كسر توازن الرعب مع المقاومة، خاصة أنها تعرف جيداً أن الرد آت، وأن المقاومة لن تنام قبل أن «ترعب» إسرائيل. لم ينس هؤلاء عملية مزارع شبعا التي أعلن «حزب الله» مسؤوليته عنها، رداً على استهداف مقاوم في عدلون، معيداً من خلالها تثبيت قواعد الحرب الباردة مع الإسرائيلي.
حتى ما رددته بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية عن ترابط بين تصريحات أوباما، الرافضة لوضع الكونغرس عقوبات جديدة على إيران تحت طائلة الفيتو الرئاسي، وبين العملية، ليس مستبعداً. كثر يعرفون أن العوامل الخارجية عادة ما أثرت في القرار الإسرائيلي، لكنها في النهاية تبقى عوامل مساعدة وليست حاسمة. وبدقة أكثر يمكن لهذه العوامل أن تؤثر في توقيت العملية لكنها حكماً لن تؤثر في أساسها.
ما هو العامل الحاسم الذي جعل إسرائيل تتخلى عن حذرها في التعامل مع «حزب الله»؟ سريعاً يتلو المصدر المقرب من الحزب عبارة واحدة: من الواضح أن الإسرائيلي يقول إن تمدد «حزب الله» إلى الجولان هو خط أحمر. ما جعل هذا التحليل الأكثر ترجيحاً كان مطالبة وزير الحرب الإسرائيلي موشيه يعلون لنصرالله بأن يشرح ماذا يفعل عناصره في الجولان، بعدما نفى ذلك في مقابلته التلفزيونية. علماً أن نصرالله كان قد أوضح أنه ليس هناك تشكيل لـ»حزب الله» في الجولان يقوم بأعمال المقاومة، لكنه لم ينف أن يكون للحزب دور هناك، إذ أشار إلى أنه «قد نقوم بدعم أو مساعدة أو مساندة أو تدريب أو تأمين بعض مستلزمات المجموعات المقاومة من أهل البلد».
إذاً هدف العملية واضح وهو «دفع أذى حزب الله» عن الجولان المحتل. فإذا كان «حزب الله» ينظر بعين الريبة إلى الروابط بين إسرائيل و «جبهة النصرة» في الأرض الجولانية، فإن إسرائيل التي تخشى أن يملأ الحزب أي فراغ يمكن أن يتركه الجيش السوري، أعلنت من خلال الغارة أن تحويل الجولان إلى جبهة مقاومة ثانية دونه الكثير من المحاذير. لا تحتمل إسرائيل مجرد التفكير بأن يكون في الجولان وضع شبيه بوضع الجنوب اللبناني.
المخاطر الجيو – استراتيجية التي تعتبر إسرائيل أنها تطالها من خلال وجود «حزب الله» في الجولان، جعلتها تنفذ العملية مع معرفتها المسبقة بأن حجم الرد لن يكون بسيطاً. هي تدرك أن الحزب لا يمكن أن يفرّط بمعادلة الردع والتوازن التي أسسها بدماء أبنائه. في الأساس كان نصرالله قد لمّح إلى أن المقاومة معنية بالرد على أي استهداف لسوريا بوصفه استهدافاً لمحور المقاومة. بعد العدوان صار الحزب معنياً بالرد رداً مضاعفاً.. فقد ضربت إسرائيل سوريا والمقاومة معاً. ضربت ضربتها، لكن التوازن لم يختل لمصلحتها. استنفارها وقلقها من الرد يوحيان أن المبادرة ما تزال بيد «حزب الله» وأنه ما يزال قادراً على فرض معادلته.