لو كان السدّ في الجنوب لنُفّذ
“هلكونا” بسد بسري، لكن ماذا عن سد العاصي؟ تتكرر هناك، في بعلبك والهرمل والقاع ورأس بعلبك، أغنية عاصي الحلاني “على مين متكلين” أما السدّ فسُدت آذان من بيدهم “الأمر والنهي” عن أصوات المطالبين به وأصبح تاريخاً ماضياً ثقيلاً على الحاضر. لماذا عصى سد العاصي عن التنفيذ؟ سؤالٌ يُسأل، ما دام “الأقوياء”، نواب بعلبك والهرمل، يقولون إنهم على “قد كلمتهم” ويُدرجون السدّ وعداً في برنامج “حزب الله” الإنتخابي. أليس السدّ حاجة لمنطقة تفوح فيها رائحة “المقاومة”؟ أليست المياه سبيلاً من سبل المقاومة؟ لماذا يغضّون الطرف عن سد العاصي في منطقة تشحذ نقطة المياه ويطالبون بسدود مثقوبة؟ وهل طويت صفحة سدّ العاصي؟
هو حلمٌ قديم في منطقة هجرتها من زمان الأحلام. سد العاصي، واسمه على اسم نهر العاصي، الذي ينبع من لبنان، من أعالي سهل البقاع، ويدخل في سوريا، عند نقطة طاحونة العمرية في بلدة ربلة، ويقطع 20 كيلومتراً ويتوجه الى حمص ثم حماة، حيث تنمو البساتين والخضرة، ويتابع الى جسر الشغور ودركوش ويدخل الى أنطاكيا. يا لها من رحلة يُستفاد منها، ما إن تخرج من لبنان، خطوة خطوة، أما هنا، في أعالي سهل البقاع، فيشتهون نقطة المياه!
من يُعرقل مسار سدّ العاصي؟
حسن جعفر، المهندس الجيولوجي الشاهد على تفاصيل الإتفاق الذي جرى بين لبنان وسوريا على توزيع حصص مياه العاصي يقول: “هناك سدان وليس واحداً. السدّ التحويلي والسد التخزيني. ويوم بدأنا إنشاء السد التحويلي واشترينا القساطل والأجهزة وقعت حرب تموز عام 2006، وكنتُ في حينها مسؤولاً عن السدود في لبنان، ضربت إسرائيل وجاءت الأضرار بسيطة لكن الشركة الصينية المتعهدة خافت وهربت وبقي المتعهد اللبناني الذي سعى الى تسجيل أضرار لم تحصل. أشرفت شخصياً وحددتُ الأضرار بأقل من خمسين ألف دولار أميركي لكنه أراد تعويضاً عن أضرار وهمية بقيمة مليون دولار. رفضتُ وواجهتُ كل التدخلات وقلت: أنا المسؤول عن السدّ. وأتت النتيجة بإزاحتي من موقعي وذلك أيام الوزير آلان طابوريان” ويستطرد: “كل من توالوا تنتهي أسماؤهم بحرف “ن”: طابوريان ونزاريان وجبران. واختلفت معهم جميعاً. فقد أوقفتُ صفقة في شبروح تزيد قيمتها عن أربعة ملايين دولار لكنهم أنهوا تكليفي لتمرير الصفقة”.
من يُصغي الى حسن جعفر “الآدمي” وهو يسمي الأمور من دون أي مواربة يدرك عمق مغارة علي بابا التي نعيش فيها. لكن ما رأي مدير عام الإستثمار السابق في وزارة الطاقة غسان بيضون الذي لم تكن السدود ضمن مهامه لكنه كان يراقب وهو العالم بـ”البير وغطاه؟”.
يتحدث بيضون عن مشروع سد العاصي الذي تمّ تلزيمه العام 2005 بقيمة 32 مليون دولار “ويوم حصول العدوان كان على الأساسات فتوقف المشروع، والمتعهد وهو من آل حطاب، محمود حطاب، طالب يومها بالتعويض عن الأضرار كي يتابع العمل. مرّت الأيام، وفي العام 2008 تنقل الملف بين المديرية العامة للموارد المعنية بالتلزيم ومجلس الوزراء وهيئة الإستشارات في وزارة العدل. و”طوّلت الحكاية”. وزير الطاقة لم يكن متحمساً له و”فضّل استخدام المال المرصود للسد في مطارح أخرى، وأصبح اليوم من شبه المستحيل إكمال السدّ بعدما ارتفعت الأسعار ومن دون توافر تمويل خارجي”.
يتهم غسان بيضون وزير الطاقة السابق- الحاضر (عبر مستشاريه) جبران باسيل “بفرضِ أولويات يقررها هو وحده، معتبراً نفسه صاحب الأفكار الخلاقة وحرّاً بما يقرره، وأولوياته يفترض أن تسود”. لكن ماذا عن نواب المنطقة الأشاوس؟ يجيب بيضون “كلنا نعلم أن لا شيء يمشي في مجلس الوزراء إلا “سلّة واحدة” متكاملة. إنهم يتقاسمون الأشياء و”يبدّون” أموراً على سواها”.
ما رأي إبن بعلبك،، الخبير في المياه وهندسة البترول، محمود الجمال ؟
الجمال ضليعٌ في حفر الآبار ويراقب اليوم “عملية البحث عن البترول” كما راقب، منذ البدايات، حال السدّ ويقول “حال السد، كما حالنا، التي لم يبال بها يوماً نواب المنطقة”. ويستطرد “يدعوننا لأن نزرع على الشرفات ونسوا أن هناك دونمات زراعية كثيرة كان يمكن أن تحدث كل الفرق لو أتموا سد العاصي. فهنا، من بعلبك الى الهرمل، وكأننا في قلب الصحراء، وأراض “تهبل” بلا استثمار، كانت تؤمن قديماً القمح الى الأمبراطورية الرومانية والآن أصبحت صحراء جرداء. النواب لم يساعدوا في شيء. لا خطط لديهم بل مجرد كلام بكلام. والمؤسسات المعنية مبنية على فساد. فها هم يأتون بحاجب يجبي فواتير المياه مديراً على مؤسسة مياه البقاع وكأن لا مهندسين لدينا، وقبله أتوا بعامل “يعيّر” العيارات مديراً، وقبلهما أتوا بمدير حائز على شهادة مزورة”.
يتحدث الجمال عن فساد ولكن من عطل بالفعل تنفيذ السد؟ يجيب “لو كان السدّ في الجنوب، حيث نبيه بري، لكان نُفذ. هناك تحصل كل المشاريع. وبعلبك بالإسم محسوبة على طائفة معينة. هنا لا هم لهم إلا حماية السلاح. أما المعطل الثاني، فهو جبران باسيل الذي لديه أجندته الخاصة في تنفيذ المشاريع”. وماذا عن سوريا؟ ألم تساهم في تعطيل بناء السد هي أيضاً من أجل الإحتفاظ بأعلى نسبة من مياه العاصي؟ يجيب “طبيعي أن تخف القدرة ولكن أعتقد أن حسن جعفر يملك معطيات أكثر”.
نعود الى حسن جعفر، الشاهد على الإتفاقيات التي جرت بين لبنان وسوريا طوال 14 عاماً حول مياه العاصي. كان حسن جعفر رئيس اللجنة الفنية من الجانب اللبناني التي تابعت ملف مياه العاصي مع سوريا ويقول “أجرينا محادثات طويلة وقلنا إن لنا حصة يفترض أن نأخذها نسبتها 40 مليون متر مكعب، وإذا لم نبنِ خزاناً فستذهب الى سوريا. لذا كان المطلوب تخزينها بين تشرين الأول وآذار واستخدامها من نيسان الى تشرين الأول” ويستطرد “أخذنا حقوقنا بموجب الإتفاقية بالقوة و”فشر” أي كان أن يقول العكس وأنا كنت رأس حربة في الموضوع ولم أقبل أن أتنازل عن أي ليتر مياه. وهناك، في سوريا، قالوا لنا: “ماذا فعلتم بالسوريين من اللجنة المشتركة، أتوا الى لبنان، فقدمتم لهم العرق وأخذتم ما تريدون”. وهذا لم نحصل عليه بسهولة بل قلبنا الطاولة عليهم مرات ومرات. وكل المحاضر الموثقة في حوزتي”.
شخص آخر من آل شمص شاهد على ما حصل ويقول “معظم الكتل البرلمانية الوازنة التي ينتمي إليها نواب بعلبك الهرمل دافعت بشراسة عن مشروع سد بسري، وما يثير الغضب ان هؤلاء تنافسوا لتسويق سد رفضه الشعب وأغفلوا، في المقابل، عن مشروع سد العاصي الحيوي لمنطقة بعلبك الهرمل والذي كان في طليعة الوعود الانتخابية لهؤلاء النواب. هنا يتذكر شمص يوم وقف وزير الصناعة حسين الحاج حسن على أدراج معبد باخوس في قلعة بعلبك باسم لائحة “الأمل والوفاء” وقال “انطلاقاً من شعارنا “نحمي ونبني” نعاهد اهلنا ان نبقى صرخة الحق المدوية الى جانبهم، نحمل آلامهم وآمالهم ونحتضن قضاياهم في كل المجالات وأهمها ملفا الليطاني والعاصي”.
كان يا ما كان. وانهمكت “الأمل والوفاء” بهموم سوريا واليمن وبلاد “الماو ماو”… وما عدا ذلك لا يهم!
ما راي إبن الهرمل أبو ربيع أمهز في قضية سدّ العاصي من زمان وزمان؟ يجيب “المشروع هو جنّة لكن، أيقنت منذ البداية أنهم يكذبون علينا، لأنهم وببساطة غفلوا عن نقطة رئيسية أساسية كان يفترض أن تسبق وهي فرز الأراضي في الهرمل”. يضيف: “خرائط هذه المنطقة، التي كان يجب أن يبنى عليها السد، ممسوحة منذ العام 1927 وهي غير مفرزة. إقترحت مرات عدة عليهم أن يفرزوا الأراضي كي لا يصيبنا مثلما أصاب صاحب شاحنة الألعاب الذي حين وصل، محملاً بالهدايا بلا أسماء، تحولت الأرض الى بحيرة دماء بدل أن تصبح واحة فرح. تشاجر الناس على الألعاب. وهنا، في الهرمل، سيتشاجر الناس على ملكية الأراضي المحاذية للسد. لذا قلت لهم: السد رائع لكن إفرزوا الأراضي أولاً”.
لم يفرزوا ولم يبنوا. والأعوام تمضي والعاصي عصي على لبنان و”سالك” في سوريا وصولاً الى مصبه في تركيا.
نعود الى ابو ربيع أمهز الذي يملك معلومات كثيرة وكان شاهداً على مداولات أيضاً كثيرة ويقول “سأفاجئكم بأن السد أصبح “سُديد”. ماذا عنى بذلك؟ يقول “صغرت المساحة المتفق عليها في بناء السد، مثلما تصغر الشمس وتغرق في البحر، لأن آخر الدراسات دلت أن السد، بسعته القديمة، يمكن أن يلحق الضرر بالأراضي لذا اتفق أن يصبح “سديداً”. وسبق وأرسلنا كتاباً مفتوحاً الى رئيس الجمهورية نقول فيه “لا نريد هذا السديد الصغير بل نطالب بالإبقاء على السد الكبير” ثم عدنا، بناء على طلبي، وأزلنا كلمة “لا نريد” خشية أن يضعوها قبل عبارة “السد الكبير”. فكل شيء في بلد مثل لبنان جائز”.
يبدو أن العاصي يصغر وسيصغر بعد الى أن يتلاشى!
ما رأي حسن جعفر بكل ما سمعناه؟
يقول جعفر إن المتعهد محمود خطاب، وهو شيعي من النبطية، مدعوم. وهو كان بامكانه أن يأتي بشركة أخرى غير الشركة الصينية التي هربت بعد حرب تموز. ولو أوكلوا إلي المهمة لكنت نجحت في إتمام التلزيم بمبلغ 25 مليون دولار بدل مبلغ 32 مليون دولار. لكنهم جميعهم مشاركون في الفساد ويأتون بأشخاص يروضونهم كما يحلو لهم ويتقاسمون معهم مال العباد”.
وماذا بعد؟ إلام سيؤول إليه حال السدّ بعدما نشف المال في عروق المؤسسات وأكل، من أكل، عرق الناس؟
هناك، في بعلبك الهرمل، كلام كثير. والآتي قريب.