في 27 أيّار 2012، أعلنت مجموعة من رجال الدين الدعويين والسياسيين ولادة «هيئة العلماء المسلمين في لبنان». ورغم أنّ البلد متخمٌ بالهيئات والتنظيمات والحركات الإسلامية، إلا أن الظرف الذي وُلدت فيه الهيئة كان يستدعي منها، على ما يبدو، القيام بدور ليس منوطاً بسواها.
11 شيخاً وعالماً من مختلف المناطق اللبنانية التقوا وأعلنوا عن المولود الجديد، هم: حسن قاطرجي وأحمد درويش الكردي وأحمد العمري (بيروت)، سالم الرافعي ورائد حليحل (طرابلس)، مالك جديدة وزيد زكريا (عكّار)، منير رقية وعدنان إمامة (البقاع)، خالد العارفي (الجنوب) وهمام الشّعار (جبل لبنان).
في البيان التأسيسي، أعلن المؤسّسون أن هدفهم «إيجاد إطار جامع للعلماء المسلمين في لبنان»، بشكل بدا وكأنّهم يحاولون أن يكونوا بديلاً عن دار الفتوى، رغم أنّهم نفوا ذلك مراراً. وأعلنوا رفضهم «الاستغلال السّياسي للمسلمين عبر تأجيج العصبية الطائفيّة»، وهو أمر لم يثبته أداء أغلب مشايخ الهيئة طوال عقد كامل، وصولاً إلى التأكيد على «نصرة قضايا المسلمين المحقّة والعادلة في العالم، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وثورات الربيع العربي، وخاصة الثورة السورية». لكنّ أداء الهيئة في السّنوات العشر الماضية أثبت أنّ نصرة القضية الفلسطينية لم يخرج عن إطار المواقف العمومية، فيما انصبّ كلّ جهدها على دعم «الثّورة السّورية» دون غيرها من ثورات الربيع العربي، حتّى إنّ البعض تساءل عن سبب غيابها عن دعم «ثورة» 17 تشرين الأوّل 2019 في لبنان.
خلال سنوات التأسيس الأولى، لعبت الهيئة دوراً مهماً على السّاحة الإسلامية السنّية، واستقطبت كثيراً من الفئات والشّرائح الشعبية، وتمكّنت من ملء الفراغ الناتج عن غياب دار الفتوى وتراجع دورها، بالتزامن مع الخلاف الحادّ الذي نشب حينها بين المفتي السّابق الشيخ محمد رشيد قبّاني وتيّار المستقبل. كما كانت حاضرة، بشكل أو آخر، في جولات الاشتباكات في طرابلس بين منطقتَي باب التبّانة وجبل محسن، إضافة إلى أدوار غير خافية في سوريا، ودعمها بأشكال مختلفة مجموعات إسلامية معارضة للنّظام، ما أكسبها حضوراً سياسياً وإسلامياً تجاوز حجمها وقدرتها.
لكنّ الهيئة التي اقتصر التمثيل فيها على الجماعة الإسلامية وسلفيين، عانت منذ لحظة تأسيسها من نقص، بسبب غياب أو تغييب مكوّنات إسلامية أساسية عنها، أبرزها حركة التوحيد الإسلامي (بجناحَيها، الموالي للشيخ بلال شعبان أو للشيخ هاشم منقارة)، حزب التحرير، تنظيم جند الله (برئاسة كنعان ناجي)، ومشايخ بارزين في صفوف التيّار السلفي مثل حسن الشّهال وصفوان الزعبي، إضافة إلى الراحل الشّيخ داعي الإسلام الشّهال، فضلاً عن جمعيات وهيئات إسلامية أقل وزناً.
بعد أقلّ من سنتين على ولادتها ظهرت بوادر الانشقاق في صفوف الهيئة، بعدما أعلن الشيخ مالك جديدة، أحد مؤسّسيها، في 1 كانون الأول 2014 استقالته منها، مبرّراً ذلك بـ«محاولة السيطرة على الهيئة من قبل جماعات وجمعيات لأهداف متعدّدة، منها كسب الشّارع السنّي، ومحاربة المرجعيات الدينية (دار الفتوى)، واعتبار البعض الهيئة غطاءً لجمع الأموال، واستغلال البعض الهيئة والثورة السّورية ليجمع لنفسه أموالاً ويبني مدرسة خاصّة له تكاليفها مليون دولار»، و«محاولة اقتسام النفوذ والمكاسب بين أجنحة سلفية والجماعة الإسلامية».
شيئاً فشيئاً بدأ نشاط وحضور الهيئة يتراجعان، إلى أن اقتصرا على إصدار مواقف عمومية، مع ظهور مشاكل داخلية فيها تمثلت في تعليق عدد من المشايخ عضويتهم تحفّظاً عن أدائها، قبل أن تحاول استنهاض نفسها مجدّداً بعد إعلان الرئيس سعد الحريري، في 24 كانون الثاني الماضي، «تعليق» عمله في الحياة السّياسية اللبنانية وعدم خوضه وتيّار المستقبل الانتخابات النيابية المقبلة، معتبرة أنّ الفرصة سانحة لها لملء ما أمكن من الفراغ الذي سيتركه خلفه.
مقاربة الهيئة للاستحقاق الانتخابي المقبل أوضحته مصادر مسؤولة فيها لـ«الأخبار» بأنّ «السّاحة السنّية ليست حكراً على فئة دون أخرى وهي غنية بالشّخصيات، لكن لا يوجد أيّ راعٍ لها داخلياً أو خارجياً، إضافة إلى أن الصّراع السّياسي الدّائر في لبنان والمنطقة، يحتّم علينا عدم الاستقالة من واجبنا ودورنا». وأكّدت المصادر أنّ الهيئة «لن ترشّح أحداً باسمها، لكنّها ستتبنّى شخصيات وفق معايير ومواصفات معيّنة، أبرزها أن تكون متديّنة وضدّ النظام العلماني والزواج المدني، وهي تتواصل مع شخصيات من مختلف المناطق، تحديداً في طرابلس والشّمال حيث الثقل السنّي، وهناك أيضاً حوار مفتوح مع الجميع على السّاحة الإسلامية».
أوساط إسلامية أخرى، بعضها غير موجود في الهيئة وأخرى نأت بنفسها عنها، تتهم هيئة العلماء بأنّها «واجهة للجماعة الإسلامية التي تعمل على استغلالها لأهداف سياسيّة منها الهجوم على حزب الله مثلاً، وهو أمر لا تستطيع الجماعة القيام به مباشرة، أو تسويق نفسها في بعض دول الخليج العربي لتعذّر ذلك على الجماعة بسبب انضوائها تحت عباءة تنظيم الإخوان المسلمين».
وحول مقاربة الهيئة للانتخابات ودورها ووزنها فيها، لفتت المصادر إلى أن «الهيئة لا تمون على أحد على السّاحة الإسلامية سوى على الجماعة الإسلامية التي تراجع حضورها كثيراً خلال السّنوات الأخيرة، كما أنّ أغلب المشايخ السلفيين فيها لا يشجعون المشاركة في الانتخابات لأسباب عقائدية». وحول قدرة الهيئة على ملء الفراغ على السّاحة السنّية بعد انسحاب تيّار المستقبل، ردّت المصادر: «إنّها تحلم».