أعادت تحفظات طهران على إعلان أنقرة، وخروق وقف إطلاق النار من قبل ميليشيا تابعة لها، بدءاً بإعاقة ترحيل مقاتلي حلب إلى إفشال هدنة وادي بردى، ثم معارضتها دعوة موسكو إشراك واشنطن في مفاوضات آستانة… أعادت إلى الواجهة الحديث عن وجود خلاف بين روسيا وإيران حول إدارة الملف السوري، وبالتالي الأسئلة عن ماهية هذا الخلاف وحدوده وفرص تصاعده.
ثمة من يعتقد أن ما يجري ليس خلافاً حقيقياً بل تبادل متقن للأدوار بين حليفين كمّل أحدهما الآخر في تنفيذ المهمات السياسية والعسكرية الداعمة لاستمرار النظام السوري، لكن الوقائع تقول بوجود تباينات جدية في المصالح والحسابات بينهما، بدأت تتجلى بمواقف متعارضة وخلافات متعددة الأشكال، fخاصة بعد أن هدأت طبول الحرب واتضح الوزن النوعي لموسكو في القرار السوري.
أولاً، يختلف الطرفان على مستقبل السلطة ومسار التسوية السياسية، فالهدف المعلن لموسكو هو هزيمة الإرهاب وفرض حل يضمن استقراراً داعماً لها، حتى وإن استدعى ذلك إجراء تغييرات في بنية النظام وأهم رموزه، بينما تهدف طهران إلى تثبيت الوضع القائم برمته والحفاظ على استمرار النظام بكافة رموزه، يحدوها موقف، كررته في غير مناسبة، يرفض فكرة المرحلة الانتقالية والحكومة الموقتة ذات الصلاحيات الواسعة.
وبعبارة أخرى تتوسل موسكو لتعزيز هيمنتها ونفوذها في سورية، تمكين الدولة ومؤسساتها وبخاصة الجيش النظامي، بينما يميل النهج الإيراني إلى إضعاف الدولة وحتى تفتيتها لتمكين الميليشيا المرتبطة به، من ملء الفراغ، كسبيل لديمومة نفوذه، ناهيكم عن أنه يذهب غالباً إلى تغيير البنية المجتمعية التقليدية وفرض نمط حياة يستند إلى البعد المذهبي تعويضاً لفقدان البعد المتعلق بالقضية الفلسطينية، ما يضع أكثرية المجتمع السوري أمام أخطار التهجير والتغيير الديموغرافي، ويحاصر الخصوصية المدنية والثقافية للأقليات الإثنية والدينية.
ثانياً، الخلاف على الموقف من المعارضة وجماعاتها المسلحة، بين اعتبارها كلها إرهابية من قبل طهران وبين ميل موسكو للتفاهم مع بعض قواها السياسية وفصائلها العسكرية في محاولة لتدجينها واحتوائها، وإذ تخوض الميليشيا التابعة لطهران معاركها ضد مختلف جماعات المعارضة المسلحة، تدّعي موسكو بأنها تواجه تنظيم داعش وجبهة فتح الشام فقط، ولا تمانع عقد لقاءات مع بعض الفصائل العسكرية من «الجيش الحر» ودعوتها إلى آستانة، باعتبارها جماعات غير إرهابية! عزز هذا الخلاف رفض موسكو استمرار الدور العسكري لحزب الله في سورية ورفده بميليشيات موالية لطهران، ما يفسر مبادرتها لحل لجان الدفاع الوطني التي ينضوي ضمنها سوريون مرتبطون بحزب الله والحرس الثوري، وتحويلها لفرقة ملحقة بالجيش، كمحاولة لإضعاف نفوذ تلك المليشيات وقنوات تغلغلها في المجتمع.
ثالثاً، يتنازع الشريكان على الحصص والمغانم لتقاسم البلاد، تجلى ذلك بتنافسهما على إبرام الهدن لاحتواء أهم المناطق المحاصرة، الأمر الذي خلق حالة من التوتر بينهما في الشريط المحاذي للحدود اللبنانية، حيث تعمل طهران ممثلة بحزب الله، على تعطيل أية تسوية أو مصالحة هناك لا تنسجم مع حساباتها، بما في ذلك فرض مناطق عسكرية يحظر الدخول إليها لأي كان، ويزيد الطين بلة تفاوت النظرة بينهما تجاه مستقبل البلاد، بين رؤية روسية تطالب بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية وتحاول استعادة ما أمكن من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وبين ميل إيراني للتركيز على استرداد مواقع تخدم إستراتيجيته، وتحديداً ضمن ما بات يعرف بـسورية المفيدة، التي تقتصر على المناطق الممتدة من الحدود السورية اللبنانية، إلى دمشق وحمص وحماة وصولاً إلى الشريط الساحلي، مراهناً على بعض مكوناتها الأقرب مذهبياً منه، وعلى إمكانية التفاعل معها وضمان ولائها.
رابعاً، لن يتعدى حلم إيران التوسعي كدولة قومية بلوغ الريادة في الإقليم، ومنافسة تركيا والسعودية والكيان الصهيوني على النفوذ، بينما تسعى روسيا لتحقيق هيمنتها بإدارة مصالح مختلف الأطراف الدولية والإقليمية… ومن هذه القناة يمكن النظر إلى إصرار موسكو على دور رئيس لواشنطن في إنجاز تسوية بناءة في سورية، وإلى تقدير الكرملين أمن إسرائيل الإستراتيجي ومنحها حقاً حصرياً بمعرفة الطلعات الجوية الروسية، وإلى تفهم بوتين تمدد القوات العسكرية التركية شمال سورية، وتعزيزه خيار التوافق مع أردوغان لضمان وقف النار وتقدم المفاوضات، وكذلك إلى امتعاض الإيرانيين من الإشارة الإيجابية التي أرسلها الكرملين للسعودية باعتماد محمد علوش رئيساً لوفد المعارضة في آستانة!.
أخيراً، ومع الاعتراف بأن روسيا باتت تمتلك قدرة كبيرة للتأثير في الوضع السوري، لتغدو عملياً صاحبة القرار والكلمة العليا، ففي المقابل لا تزال إيران ممسكة بالأرض عبر الميليشيات المرتبطة بها والمراكز السلطوية الموالية لها، ما ينذر بأخطار جمة في حال تطور الخلاف إلى معركة مفتوحة بين الطرفين حول الوضع السوري.
والمعنى، أنه من الخطأ الرهان على نتائج نوعية من التنازع على النفوذ بين روسيا وإيران، ليس فقط لأن بينهما قواسم مشتركة عدة ويعرف كلاهما أهمية أحدهما للآخر، وإنما أيضاً لأنهما يدركان أن دفع التنازع نحو الاحتدام سوف يفضي إلى خسارة فادحة لمصالحهما، والأهم لأن روسيا لا تريد الغرق في مستنقع حرب لا نهاية لها، كما أن إيران تعاني من استنزاف طاقاتها في سورية والعراق واليمن ودول الخليج، وأنها، بخلاف روسيا، لا تمتلك بدائل دولية أو اقليمية تشجعها على تبديل تحالفاتها. فكيف الحال مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ومجاهرته بتهديدات صريحة ضد نظام طهران وطموحاته الإقليمية.
والحال، سوف يصطدم الخيار الروسي في سورية مع الإصرار الإيراني على حماية ما حققه من نفوذ إقليمي، لكن يرجح، في ظل تعقيدات الوضع الراهن، أن يميل الطرفان نحو تقديم تنازلات متبادلة وخلق توافقات وتفاهمات بينية، ربما، ليثبتا مرة أخرى، كم الرهان على خلافاتهما، واهم وخائب.