سورية ليست تحت الانتداب، ولا تحت الوصاية، إنها، حتى اللحظة، دولة مستقلة ذات سيادة وفق التعريف الأممي. لهذا لم يكن مستساغاً من قبل الوجدان الوطني السوري مشهد توقيع اتفاقية «خفض التوتر» أو «خفض التصعيد» الذي قام به، أمام كاميرات الإعلام، نواب وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا، كممثلين عن حكومات بلدانهم. فالواقعة لا تنسجم مع طبيعة الدول ذات السيادة، وهي، على رغم مضمونها الجيد الذي أدى إلى خفض حقيقي في هدر الدم السوري، ذات مشهدية فائقة الدلالة على غياب السيادة الوطنية السورية إلى أجل غير مسمى.
فأن تتفق ثلاث دول، وأن تقوم بتوقيع وثائق رسمية في ما بينها في شكل علني وعلى مرأى العالم أجمع، بل بحضور شهود رسميين كالأمم المتحدة والولايات المتحدة، هذا فضلاً عن حضور أصحاب الشأن، أي الوفدين السوريين اللذين يدّعي كل منهما كاذباً تمثيل الشعب السوري، والذي جيء بهما لاستكمال المشهد التصويري لا أكثر، فهذا المشهد بجميع مقوماته يتخطى حدود اعتباره جارحاً للكرامة السورية ليكون بمثابة إقرار صريح باستئصال السيادة السورية كلياً، هذه السيادة التي كانت القيمة الجامعة الأهم عند السوريين منذ استقلالهم عن المستعمر الفرنسي.
ربما، على الصعيد البراغماتي، كان من الطبيعي اقتصار التوقيع على الأطراف الضامنة فقط من دون الأطراف المحلية التي باتت، كما يعرف الجميع، لا حول لها ولا قوة. فليس أيٍّ منها يمتلك أدنى حدود القرار الذاتي المستقل، بل أمست جميعها مرهونة كلياً بقضها وقضيضها للأطراف الدولية التي ترعاها في شكل كلي، تمويلاً وتسليحاً وإطعاماً وتدريباً وشرعنة. أي، آل تمام الغاية من وجودها مقتصراً على خدمة رعاتها، فتقاتل عنهم ولأجلهم وتقول ما يريدون لها أن تقوله. ولهذا لم يكن من المُحرج إطلاقاً لهذه الأطراف الدولية الراعية أن تضع الوفدين السوريين على الطاولة بقصد الفرجة فقط، فما عاد الأمر يحتاج الى مداراة.
وضوح المشهد كان يفقأ العين. لا يحتمل نقاشاً أو جدالاً. ولا يحتاج إلى تفكير أو تأمل. كما أنه لا يستدعي حججَ وبراهينَ إثبات، بل يكفي النظر إلى شاشة التلفزيون لنرى بكامل الوضوح تغييباً مطلقاً للسيادة السورية. فلم يكن من الممكن رؤية أي نتفةٍ منها في قاعة توقيع الاتفاقية.
لم تكن الآستانة سوى عرض الحالة للعيان، فانتهاء السيادة كان قد تم البت به نهائياً قبل ذلك. ولم يبق سوى إتمام التجاذب الدولي على تقاسم حصص القسمة. فمن العدل أن ينال كلّ من الأطراف الدولية حصة تتناسب وحجم مكانته وسيطرته على ميادين القتال على الأراضي السورية. لكن، وحتى يكون كلامنا موضوعياً، فإن امتلاك الأطراف الدولية هذه الحصص لم يحصل نتيجة انتزاعها لها من الأطراف المحلية، بل إن هذه الأخيرة هي من قدمه طوعاً للأطراف الخارجية في مقابل الاستقواء على الخصم المحلي عبر عمليات مقايضات مشينة، مقايضات لا أرى أن لها أي اسم آخر سوى «الخيانة». والخيانة هنا ليست اتهاماً إطلاقاً، بل توصيف دقيق لما قام به جميع الأطراف المحلية المتقاتلة. فلا أعتقد أنه يوجد صورة أنصع للخيانة من صورة تسليم مفاتيح «المدينة» لجيوش أجنبية في مقابل وهْمِ الحماية من خصم محلي. فالخيانة توصيفاً هي: استحضار قوى الخارج إلى الداخل في مقابل التنازل التام لها عن السيادة الوطنية. فلا ملامة هنا على الأطراف الخارجية إطلاقاً، فقد قايضت ما كان معروضاً في السوق بأبخس الأثمان.
لقد كان السوريون من أكثر شعوب المنطقة تمتعاً بالحس السيادي، بل استمتاعاً بالشعور بسيادتهم الوطنية. فهم لم يروا في حياتهم، قبل الآن، أي قوة عسكرية أجنبية على أراضيهم برضا أو بسكوت سلطاتهم، ولم يصادفوا في حياتهم، منذ الاستقلال، جندياً غير سوري على الأرض السورية تعلو كلمته كلمة الجندي السوري، كما هي الحال اليوم. ولم يشعروا يوماً أنهم في حاجة الى غير جيشهم للحماية من أي قوات عسكرية، حتى لو كان جيشهم عاجزاً عن استعادة أراضيهم التي تحتلها إسرائيل. وهذا إضافة إلى أنهم لم يحتاجوا يوماً الى مال أجنبي لتأمين نفقات معيشتهم، كحالهم اليوم. لقد كانت السيادة/الاستقلال أهم قيمة جامعة لغالبيتهم، حتى أن قسماً كبيراً من شبانهم كان يحتفل طوعاً بيوم الاستقلال باسمه المحلي: «عيد الجلاء».
طبعاً لا يلغي صدقية هذه الصورة شعور بعض السوريين أنه لا نفع من السيادة بعد كل الموت والدمار والخراب والتشرد الذي حلّ بالبلاد. ولا اعتبار قلة منهم أن السيادة هي من عدة وعتاد النظام السوري ذي الطبيعة القومية والعلوية، وبالتالي قد يسعدون لانتهاء هذه السيادة ظناً منهم أنها إضعاف للنظام ونصر لهم. لكن أغلب هؤلاء هم ممن بات يعيش خارج البلاد، أما من بقي داخلها فسيكون لديه انطباع آخر حين سيختبر بجلده وحواسه ذلّ فقدان السيادة. وهو ذل سيكون أقسى من أي إحساس عرفته شعوب دول أخرى في المنطقة غابت عنها سيادتها الوطنية، فبات بعضها يعيش سنوات من دون رئيس للبلاد، وبعضها الآخر تتغيّر إمارة بلاده بهمسة غير مسموعة لدولة نافذة، أو تتم تسمية ولي عهدها خارج عاصمة «العهد»، أو تُقام فيها قواعد عسكرية أجنبية تفوق قوتها قوة العسكر الوطني. ما ينبئ بذلك هو أن الذلّ السوري ابتدأ بالتزام الأطراف السورية المتصارعة بوثائق لم توقّع عليها، وعلى الأغلب لم تطّلع عليها، وقبولها بأن تعلو أعلامَها أعلامُ الدول الراعية، كأميركا وروسيا وتركيا و «حزب الله» (نيابة عن إيران).
السيادة ليست أمراً شكلانياً بسيطاً، وليست أمراً يقبع في حقل العواطف والوجدان، وبالتأكيد ليست تلك العبارات الفارغة التي يبثها التلفزيون الرسمي، أو تلك الكلمات التي يتبجح بها مسؤولو النظام. كذلك ليست هي «المناطحة» الدولية أو «المتانحة» الإقليمية التي يسميها النظام السوري «الممانعة». كما أنها بالتأكيد ليست هدم البلاد وتشريد أهلها بحجة حماية السيادة، كما يفتري النظام السوري. بل هي في الواقع الفعلي حق الشعب في تقرير مصيره بإرادته الحرة، أي حق الناس باختيار «الجنب» الذي يريدون النوم عليه. إنها الحرية العامة، والكرامة العامة. بل هي الأساس الحقيقي الذي تنبني عليه الحرية الفردية والكرامة الشخصية. إذ إن ركناً أساسياً في الحريات الفردية هو المقدرة على الاعتداد بالذات العامة، فجلّ التعبير عن الرأي، أو حتى تكوين الرأي، هو تعبير عن الرأي العام.
فقدان السيادة ليس أمراً مفاجئاً. إنه حال الدول التي تخرج مهزومة من الحروب. فهي تفقد سيادتها لمصلحة المنتصر. وسورية مهزومة في الحرب التي دارت على أرضها منذ ست سنوات، بغض النظر إن كان توصيف هذه الحرب بأنها «حرب الآخرين» على الأرض السورية، أو «حرب النظام على شعبه»، أو «حرب الدولة على الإرهاب»، أو «حرب أهلية»، أو أي تسمية أخرى، فجميعها دروب توصلنا إلى «الطاحون» ذاتها، وهو أن سورية دولة مهزومة لمصلحة عدد من الدول.
إذاً حال سورية والسوريين ليس أمراً فريداً أو بديعاً، فعدد من الدول مرّ بتجربة فقدان السيادة. لكن قلة منها فقط عرف أهلها كيف يبتلعون هذا الذلّ ويهضمونه بطريقة تمكّنهم من النهوض ثانية. وقد يكون مثال ألمانيا واليابان، اللتين تمكنتا من النهوض ثانية بعد فقدانهما المطلق لسيادتهما الوطنية جراء هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، أفضل مثال يمكننا الاستعانة به على مواجهة مصيرنا هذا.
تجاوز هذه المحنة يتطلب بالتأكيد عدم الأخذ إطلاقاً بالمذهب السخيف الذي اعتمدته السلطة أو المعارضة طيلة سنوات الصراع الماضية، حيث اعتبر الطرفان أن جميع «البلاوي» الناجمة عن صراعهما ستزول تلقائياً ما إن تقع الهزيمة بالطرف الآخر. كما يتطلب منا تعلم «ابتلاع» مرارة طعم فقدان السيادة الوطنية، والبدء بنسيان أمر استعادتها، أو الاكتفاء بالنحيب عليها. وأن نتدرب على التعايش الإيجابي على أن دولتنا «العزيزة» قد تبقى مسلوبة السيادة طيلة الدهر، يتناوب على الإمساك بزمام قرارها السيادي دول منتصرة إقليمياً أو عالمياً.
ربما علينا القبول، موضوعياً، بوجود عدد من الدول الوصية، والعمل ذاتياً على النهوض من جديد لتصبح سورية، ولو بعد حين قد لا يكون قصيراً، دولة مشاركة في الإنتاج العالمي، إن كان هذا الإنتاج معرفياً أو قِيمياً أو علمياً أو ثقافياً أو معرفياً، لا أن تبقى تتسول رعاية خارجية. وذلك لا يكون إلا بالعمل الجاد والمضني على استئصال الأسباب العميقة التي أتاحت للنظام السوري التفريط بالكيان الوطني. فهناك العديد من الأسباب أدت مجتمعة إلى تمكين النظام من جعل الصراع «شوارعياً» بعيداً كل البعد من أن يكون صراعاً سياسياً يمكنه أن يشكل رافعة مثلى لنقل سورية من مصفوفة دول التخلف إلى مسار الانتقال إلى الحداثة.
أعتقد أنه مع انتهاء الصراع المسلح على السلطة بات الدور الآن للنخب المثقفة لتبدأ بإنتاج أسس نظرية معرفية سياسية يمكن التيارات السياسية، على قلّتها الحالية، الاستفادة منها. والاستفادة تكون بمعرفة سُبل القيام بدور ما في عملية إعادة إعمار الفرد السوري ليكون ذاتاً فريدة مستقلة، وإعمار المجتمع السوري ليكون مجتمعاً منتِجاً وليس مجرد تجمّع سكّاني. فبشكل ما يتوجب على النخب الثقافية السورية العمل على نهضة معرفية تكون دليل السوريين في بناء وطن يلائم أحفادهم الأحرار.
* كاتب سوري ورئيس «تيّار بناء الدولة»