رحلة في أعماق علم النفس
على مشارف نهاية العام، وبعيدًا من مظاهر الإحتفالات في كل أنحاء العالم، يترقب المشاهد على شاشات التلفزة توقعات المنجّمين للسّنة الجديدة. ومع أن الديانات السّماوية تُجمع على عدم إمكانية توقع الغيب، نرى أنّ هذا المجال يلاقي رواجًا كبيرًا في مجتمعاتنا.
في لبنان، تستحوذ برامج التّنجيم على حيز كبير من اهتمامات المواطنين، بحثًا عن جرعة تفاؤل يستقبلون فيها عامهم الجديد، خصوصاً أن توقّعات المنجّمين قد تصيب فعلًا .
على سبيل المثال، أصاب ميشال حايك من خلال توقعاتٍ عدة أطلقها ليلة عيد رأس السنة الماضية، ومنها ما يتعلق بهزّات في كيان محور الممانعة وانكسار العمود الفقري لـ “حزب الله”. وفاجأ حايك الناس في تسميته للأمور كما هي لتتحقق لاحقًا، كما حصل بتوقعه الخطر للمسؤول في “حزب الله” ابراهيم عقيل، لتغتاله إسرائيل في أيلول الماضي.
في الغوص بتاريخ التنجيم وأصله، يشرح المعالج النفسي الدكتور داوود فرج أن “ظاهرة التّنجيم بدأت في مرحلة ما قبل الديانات السّماوية، حيث كان السحر والأساطير والخرافات تسيطر على عقول الناس، حيث كانوا يؤمنون بآلهة الشمس والقمر والنجوم والجمال والطبيعة”… أمّا عن أسباب التعلق بمعرفة التّوقعات، يقول فرج:”لا بد من الإطلاع على تاريخ تطور ذكاء الإنسان وهي نفسها أنواع الذكاء الذي يمرّ فيه عقل الإنسان خلال حياته,وهي: الذكاء الحسي، الذكاء الحدسي، الذكاء المحسوس، الذكاء التجريدي، الذكاء المنطقي، وسيكولوجيا الذكاء المنطقي التي تكون في مرحلة الرشد. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الذكاء الحدسي هو أصل النواة الأساسية التي من خلالها نتخيل ونلجأ للسحر والخرافة وعلم الغيب. ومن يستهويه التنجيم يكون قد سيطرت عليه مرحلة الذكاء الحدسي”.
التطور الفكري يختلف بين البشر، وفيما يصبح البعض في مرحلة سيكولوجيا الذكاء المنطقي، نرى آخرين قد علقوا في مستوى فكري معيّن أي في مرحلة الذكاء الحدسي. وهنا يلعب المستوى الثقافي دوراً هامًا في هذا، فالمجتمعات المتقدمة علميًا قد تحرّرّت من عالمي الغيب والتنجيم. ويوضح فرج أن “الصدمات النفسية والآفاق المغلقة تلعبان دوراً في لجوء الناس إلى السّحر والتنجيم والخرافات لأنها تعطي آمالًا بالتغيير.
في لبنان، المستقبل المجهول بفعل سياسات الدولة وتوالي الأزمات والمصائب، قد تدفع البعض وفي محاولة للتكيف مع ما يجري، في اللجوء إلى من يتوقع المستقبل. حتى ولو كانت هذه التوقعات وهمية، فهي تخلق عند البعض نوعًا من التوازن النفسي خصوصاً عندما نعلم ما قد ينتظرنا.
يؤكد فرج أن “المنجّمين يلعبون على الهواجس الأساسية، ولأننا نعيش في دولة تحاصرها الأزمات، نتوقع الأسوأ فنصدقه في حال تنبأ به أحد المنجمين”. وفيما لو كانت الأجواء السياسية مستقرة في بلد ينعم بازدهار إقتصادي وخطط مستقبلية، لما كان لجأ كثيرٌ من اللبنانيين إلى التنجيم لأن المواطن حينها سيكون مطمئنًا على مستقبله وفي حالة من الإستقرار والأمان”.
لا بدّ من الإشارة إلى أن معدل تحقق التّنبؤات منخفض نوعاً ما، إلّا أن النّاس تميل إلى التّركيز الانتقائي على الحالات التي تحققت فيها التّنبؤات. أمّا المنجم الذي تنجح توقعاته في معظم الأحيان فهو نقلًا عن فرج، يعمل على تنمية وتطوير ذكائه الحدسي إلى درجة تجعل من حدسه هذا مبدعًا، ما يجعله يفهم الواقع بأسلوب آلي. أي باختصار، يتحوّل إلى رادار يلتقط الإشارات الفيزيائية ليصبح قادرًا على الإستشعار بما سيحدث ويحولها إلى توقعات.
قد يتحوّل التّنجيم أحيانًا إلى أداةٍ للتّلاعب بالمشاعر والإستغلال السياسي، لذلك لا بدّ من التوعية لضرورة تجنّب ربط حياتنا بتوقعات المنجمين. وفي نهاية المطاف “كذب المنجمون ولو صدقوا”.