فعلها النواب أخيراً. تحدّوا البرد القارس. قاموا من فراشهم. استحموا على عجل. أفطروا على عجل. الساعة تقارب الحادية عشرة، وصار لا بد من مغادرة المنزل. قبلة على جبين الأولاد الذين عطّلوا على حساب «زينة» وأخرى على وجه الزوجة التي لم تتمكن من النزول إلى الأسواق.
كلٌ استدعى سائقه وحراسه. حان وقت الانتقال إلى ساحة النجمة. البعض يفضّل القيادة بنفسه.. وكُثر لا يحبذون التنقل برفقة الحراس. الانتخابات انتهت منذ فترة وجيزة والنائب يعرف تماماً قدره العظيم عند ناخبيه. مشى في الحي بطيئاً. حيا كل محبيه. وانطلق لأداء واجبه الدستوري.
الطريق إلى ساحة النجمة سالكة. لا عوائق حديدية أمام المواطنين. النواب يصلون تباعاً. إنها الجلسة السابعة عشرة لانتخاب رئيس الجمهورية. السابعة عشرة ستكون ثابتة، بعد الاتفاق التاريخي بين اللبنانيين على رئيس صنع في لبنان. وللمفارقة فإن هذا الرئيس فيه من المواصفات ما جعل كل القوى الرئيسية تؤيد انتخابه. قوي. مقدام. «كاريزمي». علاقته جيدة بكل المحاور الشرقية والغربية. مع المحكمة الدولية وضدها. مع المقاومة ومع الحياد. مع إعادة العلاقات مع النظام السوري ومع تعزيزها مع المعارضة. مع حماية الطائف ومع تعديله..
التحضيرات تشي باقتراب موعد الاحتفال بانتخاب الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية. دوائر المجلس مستنفرة منذ يومين. الدعوات لحضور جلسة الانتخاب وزعت على عدد كبير من رؤساء الدول الصديقة. بعضهم أعلن مشاركته في الجلسة، التي حققت رقماً قياسياً في عدد وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية التي تشارك في التغطية.
منذ زمن لم يدخل النواب إلى بهو المجلس بهذا الزهو والاغتباط. ها هم العونيون وكذلك نواب «حزب الله» يشاركون في جلسة الانتخاب بعد 15 غياباً (شاركوا في الجلسة الأولى فقط) وها هم «نواب الدرجة الأولى» يحضرون.. بعدما دأبوا على الغياب عن الجلسات غير المصيرية. نواب «14 آذار» يدخلون، هذه المرة، ولا في بالهم الاستفادة من منبر المجلس لتسجيل النقاط والمواقف. صار الفراغ على مشارف الامتلاء، ولم يعد من داع للوم الخصوم. الكل يحيي الكل. والكل يشعر بأن المرحلة الجديدة تحمل الكثير من الأمل. بطريقة أو بأخرى استطاع شخص الرئيس أن يجمع الأضداد وأن يُشعر هذه الأضداد بأنه أقرب إلى كل منها. لذلك كان الانتصار عاماً.. والفرح كذلك.
دخل النواب إلى القاعة العامة. تأمّن نصاب الثلثين أخيراً. لم يقتصر عددهم على 86 بل تخطى المئة والعشرين. زادت الأجواء الاحتفالية بحضور الرئيس سعد الحريري شخصياً. ليس هذا فقط، تبين أن الشاب الذي يدخل إلى القاعة برفقة «الشيخ» هو نفسه النائب المتواري عن الأنظار. نعم إنه النائب عقاب صقر شخصياً. غيّرت اللحية بعض ملامحه لكن لسانه ما يزال سليطاً.
طرق رئيس المجلس بمطرقته معلناً افتتاح الجلسة بعد 228 يوماً من الفراغ. عم الصمت أثناء تلاوة المواد الدستورية المتعلقة بانتخاب الرئيس، ثم بدأت عملية الانتخاب. انتقل الموظف بين مقاعد النواب. وضع كل منهم ورقة في الصندوق، ولم تمض إلا لحظات حتى كان التصفيق الحار يملأ القاعة. عد الأمين العام للمجلس الأوراق الانتخابية، ثم أعلن رئيس المجلس انتخاب رئيس جديد للجمهورية بأغلبية ساحقة من عدد النواب.
اعتلى الرئيس المنتخب المنبر. تأهب في وقفته على وقع التصفيق وقوفاً. رفع يده اليمنى أمام وجهه وقال بصوت جهوري: «أحلف بالله العظيم أني أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه». نال التصفيق الشديد، قبل أن يفتح الملف الذي يحمله ويبدأ بتلاوة خطاب القسم، مضمناً إياه برنامجه للأعوام الستة التي سيقضيها في قصر بعبدا.
للمناسبة، صارت دوائر القصر جاهزة لاستقبال النزيل العتيد. سريعاً أضيف إلى الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية اسم الرئيس بعدما كانت خانة «فخامة الرئيس» فارغة. ولأن الرئيس عازب، ظلت خانة «السيدة الأولى» فارغة.
حرص الرئيس في بداية خطابه المؤلف من ثلاث صفحات ونحو ألف كلمة، على الإيحاء أنه يفضل العمل على إغداق الوعود. يعرف أن كل الذين سبقوه، أو معظمهم، وعدوا ولم يفوا. تكلموا كثيراً ولم يفعلوا. مع ذلك، سرعان ما تبين أن خطابه لا يختلف كثيراً عن خطاباتهم.. الشعارات نفسها تكررت وكذلك الوعود.. وحكماً الإحباط العام الذي لا يميز بين الفراغ وعدمه.
وعد الرئيس بمرحلة جديدة من الوئام والسلم الأهلي. قال إن أولويته الاستقرار السياسي والأمني ومحاربة الإرهاب. لم ينس الحديث عن وطن الرسالة وفرادة لبنان. أعلى شأن الديموقراطية وتداول السلطة. وعد بأن التمديد لن يتحول إلى أمر واقع، مؤكداً أن أولويته إقرار قانون انتخاب يراعي التمثيل الصحيح، على أن تجرى الانتخابات فوراً بعد إقراره. وختم ديباجته بالتطرق إلى استقلال القضاء والإنماء المتوازن ومكافحة الفساد، والأهم كهرباء 24 على 24.