على الرغم من مرور 12 عاماً على غيابه، وعلى يوم شهد أبشع الطرق والوسائل لإسكات الصوت وخنقه وكسر قلم الأحرار، لا يزال سمير قصير يحتل جزءاً كبيراً ومساحة واسعة في وعي الناس وضميرهم وفي ذاكرة الأحرار والشرفاء والمستقلين على مساحة الوطن العربي وخصوصاً في سوريا ولبنان. فكيف لزمن أن لا يُنصف قي مثل هذا اليوم، رجالات يُشبهون الشهيد سمير قصير ويفردون له صفحات أحبّها وملأها دراسات وتحليلات، وهو الذي تنبّأ بأوان الورد في دمشق بعدما تلمّس الربيع يزهر في بيروت؟.
كثيراً ما غُرست في الأذهان مفاهيم من قبيل أن الوطن يُسقى بدماء شهدائه، وتمت التربية على فكرة النصر أو الشهادة، لكن تبقى للموت رهبة في النفوس خصوصاً عندما يكون المُستهدف رُكناً أساسياً في وطن يُصرّ أبناؤه على النضال للخروج من شرنقة موت يُحاصرهم ويُكبّل حياتهم. الى هذا الرعيل ينتمي سمير قصير الذي سيظل حبر قلمه عنواناً للحق وطريقاً نحو التحرر، وصوته يصدح في ساحات الأحرار وتحديداً في ساحة الحريّة التي كان جزءاً من ناسها وأحد أبرز صانعيها. لكن من قلب «الغصّة» ووجع الرحيل، لم تكن تُدرك الساحات، أنه وضع على لائحة موت أعدها نظام مشهود له بإجرامه وبخنقه للحرية وقتل المؤمنين بإعادة بناء دولتهم والساعين إلى استعادة الحياة من فم الأسد.
في الثاني من حزيران العام 2005، كان سمير قصير على موعد مع الموت غيلة بعبوة ناسفة وُضعت تحت سيارته في بيروت، فكان الاغتيال الثالث بعد الرئيس الشهيد رفيق الحريري والوزير الشهيد باسل فليحان، على طريق الاستمرار في عملية كم الأفواه وضرب انتفاضة الاستقلال وخنق رياح الحرية التي صنعتها بيروت. وعلى الرغم من الإجرام الفاضح والمتعدد، إلا أن سمير ما زال حتى اليوم، واحداً من أبرز صُنّاع القرار والنصر تماماً كما كان يواجه الموت في حياته من خلال مقالاته الصحافية، فكانت النتيجة في الإثنين معاً خروج نظام الوصاية من لبنان بعد عقود من الظلم والقهر والاستبداد والاغتيالات الجسدية والتي كان آخر محطاتها اغتيال الوزير محمد شطح.
دفع سمير قصير حياته ثمناً لمبادئ آمن بها واختصرها في مجالات عدة، مرّة بشعار أو موقف، ومرّات بمقالات ودراسات أكاديمية. حلم بوطن محرر من النظام الأمني والمخابراتي يتساوى فيه أبناؤه بحيث لا يكون هناك ابن ست وابن جارية. حلم بحُريّة تستوعب الجميع من دون أن تنقلب نقمة على ممارسيها. وفي «بيان الحلم» كتب سمير: «ما نحلم به، ثقافة ديموقراطية تستعيد زخمها لتساهم في تجديد الديموقراطية العربية، ثقافة تنحاز لتحرر فلسطين ولا تخشى حرية سوريا ولا العراق». ومن قال إن الأحلام تتوقف بعد رحيل صاحبها؟ وإن الرجال ينتهون بعد أن يُحاسب الجسد وتتم تصفيته بناء على الأفكار التي يحملها؟.
بعد استشهاده، أسست زوجته جيزيل خوري ومجموعة من رفاقه مؤسسة تحمل اسمه وتهتم بنشر ثقافة الدفاع عن الإعلاميين والصحافيين في لبنان والعالم العربي، مؤسسة تحمل جزءاً من حلم سمير وأفكاره من الثقافة إلى الفنون، «مؤسسة سمير قصير»، التي انبثق منها مكتب يهتم بمتابعة الظروف الأمنية والسياسية والرقابة التي يقع تحت مقصلها الصحافيون العرب، مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية «سكايز». تقول خوري في حديث إلى «المستقبل»: «السؤال الأبرز هو الآتي: بعد أحد عشر عاماً ماذا تبقّى من سمير قصير؟ بقيت منه جائزة باسمه تُذكرنا به كل عام، والمهم في هذا الاتجاه هو أن نسبة التلاميذ في حالة ازدياد دائمة ومن مختلف الجنسيات. تبقّى منه الأمل بدولة مدنية وحلم أن لبنان سيُصبح دولة قانون لا دولة ميليشيات وأحزاب وتنافر وتناحر مذهبي».
وتُضيف: «لقد تبقّى من سمير قصير حلم ببلد لا طائفية فيه ومهرجان ربيع بيروت الذي يسمح لكل الناس بالمشاركة في الجمال والإبداع الفنّي. فحتى لو كان الربيع العربي قد توقف على أبواب مستبدين وطغاة، تبقى براعم وبذور ما طرحه سمير من أفكار، ستعود وتُنبت في كل وقت. لو كان بيننا اليوم، لكان سمير فعل ما سبق وفعله سابقاً من خلال كتابة المقالات التي كان يُساند فيها جميع المؤمنين بالحرية، وكان حتماً قلماً سليطاً في وجه كل طاغية يقتل ويفتك بشعبه. ولو كان سمير ما زال حيّاً اليوم، لكان هو 14 آذار».
بدوره، يقول الكاتب والصحافي مالك مرّوة، رفيق سمير في الثورة والنضال: «كان سمير الدينامو الفاعل في ثورة الأرز، وكانت تسمية انتفاضة الاستقلال من اختراعه. ولسمير أهمية خاصة كونه استطاع أن يصالح بين عروبته ولبنانيته كما صالح بين يساريته ولبنانيته، في وقت كان الجميع يخون بعضهم البعض. ولكن بحكم وجوده في الجامعة استطاع أن يُصالح بين هذه التسميات كلها وأثبت أنه من الممكن أن تكون لبنانياً وتُطالب بدولة مدنية». ومروّة الذي كان من أواخر الأشخاص الذين رأوا قصير قبل اغتياله، يؤكد أنه في ذلك الوقت «كان سمير متفائلاً بالخروج السوري من لبنان على غير عادته وفرحاً بأن لبنان سيعود منارة الشرق. كانت همومه وقلبه في فلسطين، وعيونه على دمشق وعقله في بيروت».
مع رفاقه في خط النضال، قاوم سمير عسكرة النظام ومحاولات تكريس الهيمنة الأمنية السورية على البلد والتي كانت مدعومة بشكل فاضح من بعض الذين باعوا أنفسهم لهذا النظام في مقابل الاحتفاظ بمراكزهم. استعاد في أحد مقالاته بعنوان «عسكر على مين»، عبارات من زمن الحرب، متوجهاً بها إلى نظام الوصاية الذي كان يتحكّم بمفاصل البلد آنذاك. أزعجتهم عبارات «أنا شعبي أكبر يا عسكر، بالحمرا بتسكر، يا عسكر، عسكر على مين، يا عسكر؟، عالفلاحين، يا عسكر». اغتالوه، وكأن صوته يصدح اليوم ويقول «اغتيال على مين؟».