لا تشي القصّة الإيرانية من بدايتها الراهنة، الجديدة والمفاجئة، بأنّها مختلفة في الشكل عن سابقاتها في المدار العربي حيث اندلعت ثورات كثيرة.. وفي المدار السوري تحديداً وخصوصاً، حيث كانت لإيران صادرات حرزانة، وحيث تدلّ الوقائع المتتالية في مدنها وعاصمتها طهران على أنّها تعيد استيرادها للاستخدام المحلّي!
في أوّل ذلك وأساسه نكران ونفي البُعد الداخلي في الحراك الداخلي، وردّ الاعتراض في جملته وتفاصيله الى تآمر عدائي خارجي لطالما كان موجوداً ومنذ البدايات لمنع تظهير الكمال الكامن في المنظومة الحاكمة والنظام التابع لها! ثمّ لمنع الدولة الفاضلة من الترسّخ والتمكّن، وقطع الطريق على آمالها العظام وسعيها الأكيد الى تحقيق إنجازات لا سوابق لها ولا لواحق!
وفي ثاني ذلك ربط المصائر العامة بتلك الخاصة. والنسج على منوال الاستقرار تحت سقف النظام أو الدمار الأهلي الشامل! والبداية ذاتها: تظاهرة في وجه تظاهرة! وتوسّل تظهير الانقسام بين الجموع بدلاً من الصورة النمطية المألوفة حيث الناس في جهة وأدوات السلطة وأشكالها ورموزها في جهة ثانية مقابلة ومضادّة!
اعتمد بشّار الأسد تلك الآليات و”نجح” في ترميد سوريا وتدميرها. ويمكنه راهناً استعارة الادّعاء الطبي العبثي الشهير: نجحت العملية لكن المريض مات! اندثرت سوريا لكن النظام لا يزال موجوداً! حتى ولو بشكل كرتوني واجهاتي برّاني وشكلي.. واعتمد معمّر القذافي النهج ذاته سوى أنّه كان أقل حظّاً من صنوه السوري: ربط الاستقرار العام باستقرار حكمه فضاع الإثنان معاً. وراحت ليبيا ولا تزال، ضحيّة خبطات “الأخ العقيد” و”فلسفة” كتابه الأخضر وهلوساته التي لم ترضَ بأقلّ من اعتبارها بديلاً ثالثاً نظرياً وعملياً عن ثنائية الشرق والغرب! والرأسمالية والاشتراكية!
إيران غير ذلك طبعاً! أكثر تعقيداً من سوريا، ولا تصحّ مقارنتها بالمثال الليبي (القذافي). لكن المفارقة، أنّ عناوين الأداء الطارئ، هي ذاتها منذ أول الطريق. وكأنّ نظام “الجمهورية الإسلامية” الذي يصعب تجاهل قوته وقدراته وخبراته هو أوّل المشكّكين في تلك القوّة والقدرات والخبرات! وأوّل العارفين بمعاني خروج العامة على “الثورة” وقيمها ورموزها وشعاراتها وسياساتها و”طموحاتها” الخارجية! وأكثر الهلِعين من ارتداد “صادراته” الى واردات! ومن فشل الرهان على كفاية الضخّ القومي والمذهبي لإشباع البطون الفارغة، وتخفيف نسب البطالة! .. ثمّ فشل إستراتيجية بناء الصواريخ بدلاً من بناء التنمية وتعزيز القدرات الشرائية وتأمين أساسيات العيش!
والمفارقة الأخرى هي أنّ المثال “السوفياتي” الأنتي-ديني يكاد أن يتكرّر في إيران “الدينية”. بحيث أنّ “هوية” النظام لا تعني الكثير أمام نتائجه الملموسة: لا يعوّض بناء العضلات العسكرية والأمنية عن غياب الكفاية الغذائية ومقوّمات الرخاء. ولا تعوّض الأدوار الخارجية “الكبرى” عن غياب الحرّية السياسية والفكرية الداخلية. ولا تستبدل الرموز المقدّسة، أكانت حزباً وأميناً عاماً، أو “مرشداً” وحوزة دينية، فطرة البشر بعدم تأليه البشر! أو نبذ فكرة تداول السلطة وتعاقب “الوجوه” عليها! ولا الى تغييب غريزة التواصل الحر والرغبة الكاسحة في ملاقاة الحداثة وآلياتها، والشعور العلني والمضمر والبرّاني والجوهري بالانتماء الى العصر وثقافاته التلاقحية وخصوصاً ما يتّصل منها بالفنون والأزياء وطرق العيش المعولمة!
مرّة أخرى يصحّ الافتراض، أنّه بغضّ النظر عن مآلات الحراك الراهن، فإنّ إيران تنتقل في هذه الأيام، من مرحلة الى أخرى. وهذه تعني (أقلّه) الانضباب الى الداخل والتواضع في الطموحات والأدوار.. و”التصالح” مع الزمن!