IMLebanon

في أصل «الطبقة السياسية»

لا شيء في العلوم الاجتماعية يُسمى «طبقة سياسية». فالعلوم هذه حددت منذ عقود مديدة معنى الطبقة وآليات تشكلها وظهورها وأدوارها. لكن «الطبقة السياسية» تبرز في لبنان كعامل حاسم في رسم مصير هذا البلد ومستقبله.

وعلى النحو الذي تنعدم فيه الأصول النظرية لتفسير نشوء «الطبقة السياسية»، يغيب أي شرح للكيفية التي تحولت فيها مجموعة السياسيين والمتنفذين اللبنانيين، من شتى الطوائف والملل ومن مشارب سياسية مختلفة الى «طبقة» وموقعها في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية استطراداً. بيد أن ذلك لم يحل دون الاستخدام الاعلامي والعام المفرط في تحميل هذه الطبقة مسؤولية كل شاردة وواردة من مجريات الأمور المسماة «سياسة» في لبنان.

التداول العام لمصطلح «الطبقة السياسية» يخلو كذلك من تفحص مصادرها والأسباب التي منحتها هذه القوة الفائقة في التحكم بحياة اللبنانيين وموتهم ونقاط ارتكازها الداخلية والخارجية. هي «طبقة» فاسدة تأتمر من الخارج وتنفذ ارادته وتشن حرباً شعواء على شعب من المساكين الفاقدين لأي قدرة على المقاومة والاعتراض. وفي حال فعل الشعب ذلك، لا تتورع الطبقة المذكورة عن تفجير الصراعات الطائفية وإغراق المطالب الحياتية والاجتماعية بدماء الاقتتال الطائفي والمذهبي.

وهي، إضافة إلى ذلك، تختزن كمية خرافية من الأموال المنهوبة من خزائن الدولة ومن تعب اللبنانيين ومن التجاوزات الصارخة للقوانين والأنظمة أو من أموال تأتيها من رعاة إقليميين. وتصرف أجزاء من الأموال هذه على اعادة انتاج نفسها وتأبيد زعامتها وقبضها على أعناق وأرزاق المواطنين وحقوقهم في الوظيفة العامة والارتقاء الاجتماعي من دون المرور ببوابة إعلان فروض الطاعة والولاء لزعيم الطائفة وأجهزته المسلحة او العزلاء من السلاح.

كل هذا صحيح. لكنه نصف الحقيقة. صحيح في توصيفه ظاهرة الفساد العام في السياسة اللبنانية وأثرها في القضاء على أي محاولة للتغيير في مهدها. لكنه ناقص لتجاهله أن المجموعة التي يطلق عليها «الطبقة السياسية» تمتلك الشيء الكثير من شرعية التمثيل. ولا يختلف لبنانيان على أن الانتخابات النيابية المقبلة، اذا جرت، ستعيد الوجوه ذاتها الى البرلمان، مع تعديلات بسيطة، لتكرر الممارسات ذاتها بالعقلية ذاتها وبالنتائج ذاتها.

لا تأتي الشرعية التمثيلية من استخدام المجموعة السياسية الفاسدة فقط لقدراتها المالية في حشد المناصرين ولا من سياسات الترهيب والتخويف ضد الطوائف الأخرى والتي راجت في الأعوام الماضية وحسب، ولا حتى من بقايا الولاءات العائلية القرابية والاقطاعية والتحالفات السابقة لقيام الدولة في لبنان والتي يعود بعضها الى الانقسامات القيسية – اليمنية – أو هكذا يزعم المتأثرون بها – بل تصدر عن عجز حملة الجنسية اللبنانية (ما زالت المواطنة حلماً بعيد المنال ههنا) عن صوغ مصالح مشتركة تتجسد في طبقات اجتماعية محددة المعالم والوظائف، وتأتي كذلك من الاخفاقات المتعاقبة لكل محاولات بناء مجتمع لبناني دشنها فشل مشروع الرئيس الأسبق فؤاد شهاب وصولاً الى انهيار التسويات التي تضمنها اتفاق الطائف منذ 2005.

وبذلك، تغولت مجموعة السياسيين الفاسدين الحاكمة وباتت قابلة في صفوفها لكل أنواع الرعاع والمتسلقين والانتهازيين ممن تعلو اصواتهم المنكرة فتطغى على كلمات متلعثمة تنطقها قلة من الحريصين على منع تكريس البلد ساحة مباحة للنهب والقتل والعدم. المباراة غير المتكافئة هذه لن تنتهي باتفاق جديد على تقاسم الغنائم. وستظل مفتوحة على رغم الابتزاز الممارس بالتخويف من عودة الحرب الاهلية.