يُشكّل ميلاد 2019 مناسبة جديدة للقوى المسيحية لتقف وتقوم بجردة حساب ومراجعة نقدية وحتى تلاوة فعل الندامة على بعض السياسات الخاطئة التي إرتكبتها.
يختلف ميلاد 2019 عن الأعياد التي سبقته، فالموارنة الذين تجنّدوا منذ أكثر من سنة برئاسة بطريركهم مار بشارة بطرس الراعي للتحضير للإحتفال بمئوية لبنان الكبير، ها هم اليوم أمام تحدّيات جديدة فرضتها التطورات الإقليمية والدولية، إضافةً إلى المعطى الداخلي الجديد المتمثّل بثورة 17 تشرين.
لا يمكن فصل الواقع المسيحي عن الواقع اللبناني، لكنّ للمكوّن المسيحي دوراً أساسياً يجب أن يلعبه ويكون في مقدّمة الثوّار، وهو الذي شكّل بأدبائه ومفكّريه أساس النهضة العربية في مطلع القرن الماضي، ولا يمكنه أن يستقيل من دوره عندما تهبّ رياح الثورة الشعبية وتلفح بلاد الأرز. وتبدو الثورة الشعبية الحقيقية، وليس ثورة الطوائف والزعامات، هزيلة وضعيفة من دون المكوّن المسيحي الذي كان في طليعة ثورة 17 تشرين، وقد سبّب غياب مشهد جل الديب والزوق وجبيل والبترون والشفروليه بعض التراجع في المشهدية العامة للثورة، خصوصاً أن الأحداث كانت متسارعة، ولا تكتمل أي ثورة من دون مشاركة جميع المكوّنات الوطنية، لكن أهل هذه المناطق يريدون ثورة وطنية حقيقية وليس ثورة دفاعاً عن زعيم أو حزب أو الدخول في زواريب المواجهات الطائفية.
أما السبب الثاني الذي يترك تردّدات سلبية على الثورة هو تواجد المسيحيين بشكل كبير في المنطقة الممتدة من بعبدا مروراً بالأشرفية والمتن وكسروان وجبيل وصولاً إلى البترون والأقضية المسيحية الشمالية، وهذه المنطقة تشكّل قلب لبنان النابض ومركز الثقل والضغط الأساسي وغياب مشاهد الثورة عنها يُضعف المشهد العام.
ويواجه المكوّن المسيحي تحدّيات عدّة بعد ثورة 17 تشرين وتردّي الأوضاع الإقتصادية، وقد ذهب بعضهم إلى القول انه في عام 1988 إستلم العماد ميشال عون سدّة المسؤولية وشنّ حربَي “التحرير” و”الإلغاء” ممّا سبّب بهجرة أكثر من نصف مليون مسيحي، واليوم وأثناء تولّي الرئيس العماد ميشال عون سدّة المسؤولية فقد يهاجر ما تبقّى من مسيحيين بسبب الأزمة الإقتصادية والتلويح بالمجاعة، علماً ان الفقر يضرب كل المكوّنات اللبنانية ولا يستثني أحداً، لكن المكوّن المسيحي الأكثر تأثّراً بالأوضاع السياسية والأمنية والإقتصادية.
وعلى الرغم من أن الوقائع تُثبت أن عون ليس وحده المسؤول عن الأزمة الإقتصادية بل يوجد منظومة فساد تنهب البلد منذ عام 1990، إلا أن المطلوب من العهد كان محاربة هذه المنظومة وليس إختيار التعايش معها والدخول في لعبتها، الأمر الذي فاقم الأزمة الإقتصادية.
ويستعدّ الرئيس ميشال عون صباح غد للصعود إلى بكركي للمشاركة في قداس العيد وعقد خلوة مع البطريرك الراعي وعلى جدول الإجتماع ملف أساسي وهو تأليف الحكومة بأسرع وقت ممكن.
ويحاول سيد القصر طمأنة سيد بكركي إلى المسار الذي تسلكه الحكومة والأوضاع في البلاد، مع العلم أن الراعي لم يزُر بعبدا منذ إندلاع الثورة، وتكتفي بكركي بوصف علاقتها برئيس الجمهورية بأنها عادية، خصوصاً أن الراعي من أكبر داعمي الثورة والداعي الاول للتجاوب مع مطالب الثوار. في زمن الميلاد، يتمنّى المسيحي أن” يُمَّحى” البغض بين القادة المسيحيين، ولا تعود حرب الأخوة، لكن الحقيقة مغايرة تماماً لكل التوقعات، فمن ميلاد 2018 إلى ميلاد 2019 تغيرات كبيرة حصلت وكان أبرزها سقوط شعار “أوعا خيّك” وعودة اللغة السياسية البغيضة بين الأحزاب والتيارات المسيحية، وما جمعته الأمنيات السابقة فرّقته المصالح.
ولا يبدو أن الوضع المسيحي يتّجه نحو التهدئة، بل إن الجميع في مرحلة مراقبة، فحزب “القوات اللبنانية” يراقب التبدّلات السياسية على وقع صرخات الشارع وهو كان المتهم الأول في تحريك شارع الثورة في المناطق المسيحية، ويقف مترقّباً ما إذا كان العهد سينال منه، أو أن طلبه تأليف حكومة تكنوقراط مستقلة سيجد طريقه نحو التنفيذ.
أم الخاسر الأكبر من الثورة، أي رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل، فيقف على نافذته ويراقب تطورات الأحداث بعدما حرقت الثورة أوراق قوّته، ويخوض حرباً لإستعادة شيء ممّا فقده، وإسترجاع قوّة أخذها من رئيس الجمهورية و”عضلات” حزب الله.
وبالنسبة إلى المكوّنات المسيحية الأخرى فإنها أيضاً في حالة ترقّب من دون وجود خريطة طريق أو خطة للهجوم.
وأمام كل هذا الضياع السياسي، يقف المسيحي متأمّلاً في كل ما يحصل ويصلّي في الميلاد من أجل ولادة الوطن الجديد المهدّد بالإنهيار التام، غير آبه بوعود السياسيين جميعاً من دون استثناء، تجمعه بشريكه المسلم كمية الأوجاع والآلام، وكل همّه خلاص البلد مع ولادة المخلّص يسوع.