«صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوِّم النفس بالأخلاق تستقم والنفسُ من خيرها في خير عافيةٍ والنفسُ من شرِّها في مرتعٍ وخم» أحمد شوقي
لا أريد أن يظنّ القارئ بأنني اكتشفت أخيراً بأنّ خيار العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية هو الأفضل للبنان، ولا أنني نادم على قناعتي منذ سنوات بأنّ بلدنا يستأهل خيارات أفضل ممّا هو مطروح لسدّة الرئاسة ومحصور في بضعة شخصيات قد لا ترقى إلى طموحات معظم اللبنانيين.
على كلّ الأحوال، فأنا مقتنع أيضاً بأنّ محاولات الجنرال المتأخرة لتلطيف خطابه والظهور بمظهر الهادئ المتفهم والحيادي، تشبه الآن محاولة «إصلاح العطار لما أفسده الدهر»، فالقاصي والداني، ومن ضمنهم أنصاره، مقتنعون بأنّ ما يقوله الآن لا يُعبّر بالضرورة عن حقيقة قناعته، بل هو فقط «لحاجة في نفس يعقوب!»
ما لنا ولكلّ ذلك، فالقضية اليوم تتعلّق بموقف الرئيس سعد الحريري من دعم ترشيح العماد عون رئيساً للبلاد، رغم كلّ المحاذير التي تصل إلى حدّ الخطر المؤكد على سعد الحريري بالذات.
فالجميع يعرف أنّ الغطاء الشعبي لهذا القرار ضعيف لدرجة الوهن، وأصبح معروفاً أنّ الإعتراض على هذا القرار كان واضحاً من نواب وساسيين في تيار «المستقبل»، ومَن أيّد القرار منهم فليس قناعةً، ولكن للثقة بسعد الحريري ودعماً له.
على كلّ الأحوال فقد كان واضحاً من خلال خطاب سعد الحريري حول ترشيح الجنرال أنّ ما دفعه إلى شرب المر هو تجنّبه لشرب السم. والسم هو قبول المسار الإنحداري المتسارع المرتبط باستمرار الفراغ الرئاسي، وبالتالي الشلل الذي انسحب على كلّ المؤسسات لدرجة أصبح قاب قوسين من إعلان الفشل الكامل للدولة.
قد يقول البعض من منتقدي سعد الحريري إنه ليس هو وحده المسؤول عن تدعيم استمرار وجود دولة أصبحت عملياً في يد «حزب الله». وقد سمعت الكثيرين من هؤلاء يصرّح بأنّ ما نفع دولة يتحكّم بها حسن نصر الله وميليشياته؟ وكيف نستسلم الآن بالكامل من خلال اختيار مرشح الحزب رئيساً للجمهورية؟
لا يمكن إلّا تفهّم هذا المنطق، ولكنّه يبقى قاصراً عن فهم الصورة الكبرى، فهدف «حزب الله» لم يكن يوماً إيصال حليفه المدلّل إلى سدّة الرئاسة، ولو كان الواقع عكس ذلك لأقنع سليمان فرنجية بالإنسحاب، ولأقنع نبيه برّي بالتغاضي عن السلال المتشعبة التي أظهرها فجأة مثلما يُظهر الأرانب من تحت إبطه بين وقت وآخر.
اليوم، الكرة بالكامل في ملعب «حزب الله»، ولن ينفع عتب نبيه برّي العنيف على سعد الحريري، فعتبه، وربما غضبه، لو كان حقيقياً لكان من الأحرى به توجيهه إلى أقرب حلفائه، أي «حزب الله» الذي أجبر الجميع على تجرّع كأس الفراغ المرّ لأكثر من سنتين متذرّعاً بأنّ الحلّ الوحيد هو من خلال تعيين العماد عون رئيساً.
قناعتي أنّ الحزب الذي يمثل قولاً وعملاً امتداداً للحرس الثوري الإيراني، وبالتالي الميليشيا التي تحتلّ لبنان نيابة عن إيران، سيسعى إلى تمديد الفراغ إلى حين تصل مرحلة إعادة تركيب المنطقة بناءً على موازين القوى على الأرض حسب قول نصر الله إنّ «الميدان هو الذي يُقرّر»، ودور الحزب اليوم وتضحياته منذ العام 1982 كلّها في سبيل تضخيم حصة الولي الفقيه في التسويات المقبلة عاجلاً أم آجلاً.
بقاء لبنان كدولة فاشلة سيُسهّل على إيران وضعه تحت الوصاية الكاملة، وربما ضمن سلة تفاهمات دولية منسوجة تحت الطاولة مع إسرائيل ومع دول كبرى، تُشبه إلى حدٍّ كبير ما نسجه حافظ الأسد سنة ١٩٧٦ يوم احتلاله الإحتيالي للبنان.
لكلّ هذا كانت خطوة سعد الحريري لوقف الفراغ.
المرجح الآن بالنسبة لي هو أنّ مواقف الرئيس نبيه بري منسّقة بالكامل مع «حزب الله»، وهذا يعني أنّ شباك التقية منسوجة بدقة تصل إلى حدّ الإبداع بين الثنائي الشيعي. أمّا الإحتمال الآخر الذي يفترض بأن ما يفعله ويقوله نبيه بري هو عكس رغبات «حزب الله»، فهذا يعني أنّ الصراع سيتحوّل إلى العلن بعد بضعة أيام كرمى لعيون الجنرال! وأظن أنّ هذا الأمر احتمال حدوثه ضئيل جداً.