… حتى قبل بدء القمة الأميركية – الخليجية في واشنطن وكامب ديفيد، تطوّع وزير الخارجية جون كيري لصب الزيت على نار القلق لدى دول مجلس التعاون، من مرحلة ما بعد الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1. وفيما تلهث طهران لقطف الصفقة «التاريخية» مع إدارة الرئيس باراك أوباما، وتصفّق لها الولايات المتحدة، تلهث الإدارة في ماراثون الاتفاق- الصفقة، ويصفّق لها «الحرس الثوري»، مطلقاً قنابل دخانية، لتعميم نشوة «الانتصار» بالتطبيع الآتي سريعاً مع مَنْ كان «الشيطان الأكبر».
ما فعله كيري قبل ساعات من القمة الأميركية – الخليجية التي يُفترض أن تؤسس لمرحلة جديدة في النظام الإقليمي، هو أنه أعطى روسيا علناً صك شرعية لبيع إيران صواريخ متطورة من طراز «أس 300»، كانت واشنطن عارضته بشدة، لتأثيره في توازن القوى في المنطقة، وكذلك في فاعلية الترسانة الصاروخية لدى إسرائيل. فجأة، باتت هذه الصفقة متلائمة مع «القانون الدولي»، ولم يكشف الوزير بالطبع، هل هذا التحوُّل الأميركي جائزة «ترضية» لإيران ستندرج ضمناً في مفاعيل الاتفاق النووي المرتقب الشهر المقبل، أم ترضية لموسكو بعد يوم ماراثوني طويل لوزير الخارجية الأميركي بين موسكو وسوتشي.
عشية القمة الأميركية – الخليجية، أعطى كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف إشارات إلى استعداد واشنطن وموسكو للبدء بفصل جديد في مقاربة النزاعات الدولية والإقليمية التي كانت ولا تزال، مسرحاً للاشتباك الكبير بين البيت الأبيض والكرملين. صحيح أن لكلٍّ من الطرفين مصلحة في تحديث ترسانات الحلفاء، لكنّ الصحيح أيضاً أن صفقات الأسلحة والأنظمة الصاروخية لم تعد تكفي لردع تهديدات من طراز «داعش» أو أحلام وطموحات عابرة للحدود، من نوع التمدُّد الإيراني، وسعي طهران إلى وصاية على عواصم عربية، باتت تهدد دول الخليج بمحاولات تطويقها.
قبل القمة – وربما خلالها – الخلاف على الأولويات ليس خفياً بين دول مجلس التعاون والإدارة الأميركية، ولا عصيّاً على التقاط دلالاته التي لا تشجِّع على طي مرحلة اهتزاز الثقة. وليس سراً أن إيران كانت تتمنى هذا الاهتزاز لتستقر طموحاتها عند تبوؤ مرتبة الحليف الكبير إقليمياً لدى الولايات المتحدة، لذلك دأبت على التذكير بأنها – خصوصاً بامتلاكها البرنامج النووي – «القوة الأكبر» في المنطقة.
بين «الشيطان الأكبر» و «القوة الأكبر» مشاريع تطبيع وتحالف بديهي أن تُقلِق الخليجيين، بعدما باتت نار الحرائق العربية على عتبة منطقتهم… وفي كل حريق أصابع لطهران، يحرّكها قاسم سليماني، فتتضخّم أرقام القتلى العرب، من سورية إلى العراق واليمن.
يُدرِك قادة الخليج بالتأكيد، أن تداعيات ما فعله الأميركي منذ غزوه العراق، سهّلت لطهران اختراق دول أخرى عربية، لكنه الاختراق الذي لا تجدي معه رسائل العتب، ولا التحذيرات الديبلوماسية، فيما المواجهة المباشرة مع إيران مُكلفة جداً.
نتائج الغزو والاختراقات، وتمادي حلفاء طهران في المنطقة العربية، أسقطت صيغة التعهُّدات والوعود الأميركية بضمان أمن الخليج، إلا إن كانت تعني فقط ضمان الملاحة البحرية في المنطقة. ولم يكن مطلوباً بالتأكيد من واشنطن أن تُرسل قوات لإنزالها على الشواطئ الإيرانية، لكي ترتدع طهران عن «القصف» اليومي بالتهديدات والتلميحات والتحريض على حكومات خليجية.
لكنّ ما رسّخ سنوات من الارتياب بالنهج الأميركي في عهد أوباما، هو تأرجحه بين التردُّد واللامبالاة اللذين شجّعا إيران على «استنساخ» مزيد من المقاومين لكل ما يخالف رغباتها… وكل ذلك تحت ستار رفض المذهبية التي نفخت في نارها، وجعلتها سلاحاً للدمار الشامل، كما في سورية والعراق، وأخيراً في اليمن.
هل لدى البيت الأبيض منظومة لمعاودة ترتيب الأولويات، أم أن مكافحة الإرهاب تُغني عن مكافحة ترويع دول ومجتمعات باسم شراكة على الطريقة الحوثية؟
مَنْ يُناور مع الخليج، حين تُغيِّب أولوية أميركية أولويات إقليمية؟
واشنطن حدّدت مسبقاً قبل قمة كامب ديفيد، هدفاً هو «ترتيبات دفاعية أكثر وضوحاً» بين دول الخليج وأميركا والحلف الأطلسي، من أجل مكافحة الإرهاب. وإن كان مبكراً استنتاج رغبة أميركية في إشراك هذا الحلف في ضمان أمن الخليج، أو في الصيغة الجديدة لضمانه، فالوزير كيري نفسه ربط بين تلك الترتيبات وتسهيلها مكافحة «بعض النشاطات في المنطقة التي تزعزع» دولها… ولكن ألا تزعزعها إيران كما يفعل «داعش» و «القاعدة»؟
الفارق أن طهران ستملك صواريخ «أس 300» المتطورة، ولديها «الحرس الثوري»، وقاسم سليماني، وستنهال عليها العروض الأميركية لتحديث طيرانها الحربي، بعد صفقة «النووي».