في «الخريف العربي»، وفيما الطوائف والإتنيات تتقوقع في كياناتها الهجينة، محقونةً بأحقادها، يقف المسيحيون المشرقيون أمام سؤال مصيري: … ونحن، الأعمق تجذُّراً، والأبعد عن الدم، كيف نبقى في أرضنا التاريخية، مهد المسيحية. كيف لا نكون «الهنود الحمر» في هذا المشرق؟
الشرق الأوسط «الجديد» أسوأ من الشرق الأوسط القديم. فالسابق رسمته دول الانتداب المتَحضِّرة والمُحضِّرة، على جثة «الرجل المريض» أيْ الأمبراطورية العثمانية، وفقاً لمصالح سياسية واقتصادية. وفي ذلك الشرق كان دور للمسيحيين، المفكِّرين والسياسيين.
وأما الشرق الأوسط «الجديد» فترسمه إسرائيل وفقاً لمصالحها الإمبراطورية، وستمنح الفُرس والعثمانيين جوائز ترضية لتكسب تعاونهم. والرجل المريض هنا هو العرب. وعلى جثته سيقوم «بنو الخلافة» و»بنو الولاية» و»بنو إسرائيل» ببناء كيانات هي أشبه بمستوعبات الحقد والدم. ففي هذا الشرق، أيّ مكان للمسيحيين ودورهم الحضاري؟
في عصر القوميات، قاد المسيحيون تيارات القومية العربية والقومية السورية، وخرجوا من لبنانهم الصغير إلى لبنان الكبير، ومن موقع الأقلية العددية في فلسطين، كانوا أكثرية في قيادة المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل. وأما اليوم، في زمن التقوقعات الطائفية والمذهبية والإتنية… بمباركة إسرائيل، فماذا يفعل المسيحيون؟
في «الهلال الخصيب»، ترتسم الكيانات «الصافية»: «داعش» لها كيانها العابر للحدود العراقية- السورية. «النصرة» («القاعدة» في بلاد الشام) في مناطق سورية أخرى شمالاً وجنوباً. الأكراد لهم كيان أو أكثر بين العراق وسوريا. الشيعة لهم كيانان في العراق وسوريا (العلويون) وملامح كيان في لبنان («حزب الله»). وأما الدروز فقد يكونون «على الطريق».
إذاً، يتوزَّع المتنازعون أرض الشرق الأوسط بكاملها، وطبيعي ألّا يُقيموا وزناً لأقلية مسيحية لا وزن لها عسكرياً أو ديموغرافياً أو جغرافياً. ففي نينوى اجتاحتهم «داعش» ونكّلت بهم وبالأزيديين. ولولا لجوءُهم إلى كردستان لكانت الكارثة أكبر.
وكذلك هم مسيحيو سوريا الذين وقعوا في قبضة التكفيريين. وأما في المدن (حمص وحلب ودمشق) والأرياف، فالمسيحيون في حضن النظام. ووحدهم مسيحيّو لبنان ينعمون بكيان يستمرُّ تعدُّدياً «نسبياً»، حتى الآن.
في الصراع أقوياء وضعفاء. والمسيحيون هم أضعف الضعفاء. وكان هناك نموذجان مسيحيان في الكيانات الشرق أوسطية السابقة:
1- النموذج اللبناني حيث اختار المسيحيون حمل البندقية في العام 1975، وخاضوا حرباً دامت سنوات (طبعاً كانت ضوابطها خارجية دائماً).
2- النموذج السوري والعراقي حيث اختار المسيحيون أن يذوبوا تماماً في الأنظمة، ليحافظوا على وجودهم. وعلى رغم أنّ العقائد التي تبنّتها الأنظمة أطلقها مسيحيون (ميشال عفلق)، فإنّ رجلاً كطارق عزيز (ميخائيل يوحنا) لم يستطع أن يحافظ على اسمه في البعث العلماني.
اليوم، تقلّص الحضور المسيحي المشرقي كثيراً بفعل المتغيِّرات. فمسيحيو المشرق وبلاد النيل الذين كانوا 25 في المئة من السكان مطلع القرن الفائت، باتوا نحو 6 في المئة. ولا مشكلة للمسيحيين مع الكيانات القائمة، ولكن، ماذا سيفعلون عندما تتفكَّك الكيانات ويجري تقاسمها؟
واضحٌ أنهم سيكونون أهل ذمَّة في الكيانات الصافية. وفي بعض الكيانات سيخضعون لأحكام تتناقض وحرياتهم الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية. ولن يكون أمام مسيحيي المشرق، عندما تكتمل صورة الإنهيارات الكيانية، سوى لبنان «نطاق ضمان للفكر الحرّ»، وفق وصف أنطون سعادة.
لذلك، ستكون الخريطة كالآتي: السنّة والشيعة والعلويون والأكراد والدروز لهم كياناتهم، والمسيحيون لهم كيان واحد وحيد هو لبنان!
ومن هنا أهمية الحفاظ على لبنان للمسيحيين، أو أهمية احتفاظ المسيحيين بلبنان، وعدم تخلّيهم عن نقاط قوة ما زالوا يتمتعون بها على رغم كلّ شيء. وإذا كان مسيحيو المشرق سيتشبَّثون بلبنان إطاراً وحيداً لحريتهم، فالسؤال الحيوي هو: هل سيبقى هذا اللبنان أم سيسقط كسواه من كيانات الشرق الأوسط التي باتت «سابقة»؟
حالياً، ثمّة حرصٌ دولي على إبقاء لبنان بعيداً عن النار السورية. لكنّ انخراط جماعات لبنانية في القتال السوري على الضفتين، واعتبار هذه الجماعات أرض لبنان جزءاً من صراعها المذهبي الشامل، يهدِّدان بالأسوأ. فـ«حزب الله» يخوض معركة عرسال كجزء من الحرب في سوريا، و«داعش» تريد اقتحام الشمال اللبناني ليكون لدولتها منفذ على المتوسط.
وهكذا، يصبح مهدَّداً لبنان التعددي الذي يريده المسيحيون الذين تخلّوا عن «جبلهم الصغير» لإنشائه في 1920. فأيّ لبنان سيكون عندما يُراد للكيان العلوي الممتدّ من الساحل السوري إلى حمص فدمشق أن يحاذي منطقة النفوذ الشيعية في لبنان؟
إذا كان «حزب الله» سيمسك بمنطقة نفوذ دائمة، تشكِّل ظهيراً للكيان العلوي، فهذا يعني بداية انهيار لبنان ككيان، أو على الأقل بداية انهياره كدولة مركزية. وستكون لكلّ طائفة أخرى في لبنان تساؤلات عن المصير. فأيّ مغامرة تخوضها أيٌّ من المكوِّنات اللبنانية تؤدي إلى متغيِّرات كيانية شاملة.
مع عودة الدول الطائفية التي نشأت مطلع القرن الفائت (العلوية، الدرزية…)، قد تراود المسيحيين- والدروز- أطياف لبنانهم السابق، الصغير. وفي عبارة أشدّ وضوحاً، «التكفير» بلبنان الكبير يقود هؤلاء إلى «التفكير» بلبنان الصغير، سواءٌ كان ذلك التفكير واقعياً أو سرابياً.
مسؤوليةُ مَن تكفير اللبنانيين، والمسيحيين خصوصاً، بالكيان اللبناني، وإشعارهم بأنه لم يعد صالحاً لحمايتهم؟ ومَن يعيد إليهم إيمانهم؟ وكيف؟