إعتداء على كنائس وتحطيم تماثيل وأجراس تُسرق
هل هي ظاهرة عادية؟ أهي مجرّد سرقات وزعرنات عابرة؟ هل نحمّلها أكثر مما تستحقّ من أسباب ونتائج؟ وهل يفترض أن نقلب الصفحة ونقول: بالرزق ولا بأصحابو؟ ظاهرة الإعتداء على كنائس لبنان تتكرر. أجراس الكنائس تُسرق. مزارات تُخرّب. تماثيل وصور قديسين وصناديق نذور تُحطّم. «البلد منو بخير» نعرف ذلك لكن، حين تكثر أحداث من هذا النوع يُصبح القلق مضاعفاً: فهل هناك من يُجدّد اللعب على الوتر الطائفي؟
في آخر الأخبار – وليس آخرها – حادثة تخريب وتكسير زجاج داخل كنيسة سيدة النجاة – البريج في قرنة شهوان. والمقلق أكثر في الخبر أنه بعد الكشف على الحادثة لم يتأكد أحد من وجود عملية سرقة. فهل من فعل ذلك قلبه مليان والحقد الطائفي ينهش روحه؟
نزولا، من قرنة شهوان الى الأشرفية، تعرّضت كنيسة مار يوسف – الحكمة الى عملية سرقة. حدث ذلك بعد اقل من أسبوعين على حادثة قتل حارس بلدية بيروت حسن العاصمي في الأشرفية.
في جبيل والبترون، الإعتداءات على «قفا مين يشيل»: تحطيم تماثيل العذراء ويوحنا بولس الثاني ومار الياس الحي في بلدة عين الدلبة. ثم تخريب كنيسة أم الفقير قرب الميناء الأثري. وخلع وسرقة كنيسة مار أنطونيوس البدواني في الهري.
في الجية أيضا إعتداء على كنيسة مار جرجس وتحطيم بعض التماثيل. وفي الجنوب، تكرر الإعتداء على كنيسة مار يوسف القديمة الواقعة بين بلدتي بقسطا وكرخا في شرق صيدا البارحة وأول البارحة وقبل عشرة أعوام. وفي طرابلس، إحراق شجرة الميلاد في ساحة كنيسة مار جاورجيوس في منطقة الزاهرية مرة ومرتين… وفي كل مرة تهرع عناصر الأمن الى محل الواقعة المتكررة للتحقيق وفحص كاميرات المراقبة والتأكيد على ثبات الأمن والعيش المشترك. نُشفق على عناصر الأمن في البلاد. حملهم كبير.
الحوادث كثيرة. تتكرر بشكلٍ ملفت، مقلق ومثير للإرتياب. وكأن هناك من يحاول أن ينبش في جحر الطائفية. بحّ صوت أنطوان مسرة وهو يتكلم ويكرر ويسهب مدافعاً عن العيش المشترك. تعب كثيرون من الهرولة عند كلِ إعتداء على مقدسات المسيحيين للقول: الدني بعدا بألف خير. وتعب الناس من سيمفونية: نُندد بما حصل.
لبنان الجميل (في الشعر والأغنيات) يعاني ويتبدد حتى ولو هناك من يحاولون الدفاع عن ثقافته وحضوره وانفتاحه برموش العيون. راعي أبرشية بعلبك ودير الأحمر المارونية المطران حنا رحمة يسترجع آخر ما شهدته «المناطق فوق»، في منطقة بعلبك ودير الأحمر، من اعتداءات على كنائس ومزارات ويُعدد ما لم يُذكر في الإعلام: «سرقوا الجرس في كنيسة مراح بيت بو يونس (مارجرجس)، والثريات من كنيسة بيت بو صليبي (سيدة البشارة)، والبارحة (قبل أيام) دخلوا مطرانية الروم الكاثوليك وفلفشوا وسرقوا. عربشوا على الحيطان واقتحموا المطرانية. أخبرني بذلك المطران إدوار ضاهر (المدبر البطريركي لأبرشية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك) ويستطرد المطران رحمة بالقول: إذا اردنا أن نتحدث بجرأة نقول: الأمن ليس بأفضل حال. نتكل على الجيش اللبناني وقائده لكن القلق كثير وكذلك اللاأمان والسرقات، أما نحن فنتصرف مثل الحمام الزاجل، مثل حمامة نوح التي كانت تحمل زهرة الزيتون في منقارها بعد أن غرقت الأرض بطوفان عظيم معتقدين أن كل العالم رجال سلام. لا، هناك من يعبث وهناك من ينشدون السلام وعلينا التمييز. نحب الجميع لكن لا نثق بمن لا يستحق.
هل يشعر المسيحيون بالقلق ويخشون من أمور ليست حقيقية؟ هل الإعتداءات المتكررة على الكنائس مجرد حوادث لا تتجاوز حدودها غاية السرقة؟
قلق متعدد
أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية ورئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة إرلنغن – نورنبرع في ألمانيا الدكتور جورج تامر يتابع من غربته شؤون لبنان وشجونه، ويقول: «أعتقد أن الكثيرين من المسيحيين في لبنان يشعرون أنهم في أزمة وجودية، صحّ هذا أم لم يصحّ. زرت لبنان في خلال صيف 2023 ولاحظت ذلك بوضوح. الهجرة زادت. هناك جماعات مسيحية تشعر بأن عددها يقل بعد أن دأبت الأدمغة في البلد على توضيب الأمتعة والأحلام والرحيل والبلد «بلا رأس». ويستطرد: «أرى أن عدم إنتخاب رئيس جمهورية يعزّز هذا القلق لكني أرى أيضاً أن ذلك ليس سببَه الشريكُ المسلم بل المسيحيون أنفسهم والموارنة بالتحديد كونهم غير قادرين على أن يجتمعوا على إسم».
لكن المسيحيين عند أي مستجدّ يعزّز فيهم الحس الطائفي يستذكرون أحداثًا دامية حصلت في الماضي ويقلقون؟ يجيب تامر: «كل شيء قابل ليتكرر. والإضطهاد أو ملاحقة جماعة معينة تحدث في مختلف أنحاء العالم، لكن، لا أرى في ما يحدث في لبنان شيئًا من هذا. لذلك، قد يكون ما يتكرر من اعتداءات بدافع السرقة أو «زعرنات» ـ وربما لأهداف دينية. مهما تعددت الدوافع، الاعتداء على الكنائس وسائر بيوت العبادة مرفوض رفضاً قاطعاً. في كل حال، من المفروض متابعة كل حادثة على حدة. وطلبي الوحيد هو ألّا يفقد المسيحيون الرجاء. ألّا يخافوا. لا تخافوا لأن الخوف يعزز حدوث مشاكل غير موجودة». ويستطرد: «لاهوتياً، هل يخاف المسيحيون على مراكز؟ يسوع قال للمسيحيين مملكتكم ليست من هذا العالم. هل يخافون على مكاسب طائفية؟ هذا قد يكون مهمّاً لأن المراكز السياسية تلعب دوراً. فليكن ذلك إذاً دافعاً للمسيحيين ليتفقوا معاً من أجل الحفاظ على دورهم في هذا البلد».
نسأل: المسيحي لا يخاف من المسلم المعتدل، الشريك في الوطن، لكنه قد يخشى من التطرف؟ يردّ أستاذ الدراسات الإسلامية: «الإجابة على هذه النقطة على مستويات مختلفة. على المستوى القرآني، لا خوف على المسيحي الذي يؤمن بالله والنبوات واليوم الآخر. على المستوى التطبيقي، ثمّة في الشرع الإسلامي دفع الجزية، وكان يدفعها أهل الكتاب، لكنها لا تطبق اليوم أبداً. حتى في أيام الدولة العباسية كان المسيحيون أكثرية، لكن لأسباب عديدة، منها الهروب من الجزية، صار المسيحيون يأسلمون. طبعًا مرّ مسيحيو الشرق في أوقات عصيبة عبر التاريخ. ويستطرد: حصلت المذابح في 1840 ثم 1860 في لبنان وسوريا وأدى ذلك الى ظهور عقدة تاريخية لدى الكثير من المسيحيين. الأوضاع الصعبة التي مرّت بها هذه البقعة من الشرق في ظل الحكم العثماني دفعت بمسيحيين ومسلمين إلى الهجرة الى مصر، حيث صاروا رواد النهضة العربية، واشتغلوا مع المسلمين وبرزوا».
وكأننا نفهم من كل ذلك أن المسيحي ينتظر دائما الضوء الأخضر من المسلم بالقبول به أو الهجرة؟ يجيب تامر: «هناك مسلمون هاجروا أيضاً، وهناك شيعة هاجروا من جبل عامل الى بلاد أخرى، وهذا الموضوع لم يحظ بعد بالقدر الوافي من الدراسة. ويستطرد: إكتشف المسيحيون لاحقًا ان لا خلاص لهم كأقلية إلا من خلال العلمنة وخلق أنظمة سياسية غير طائفية. لكن، للأسف، عاد الفكر العلماني و»تخردق». في كل حال، الطائفية ليست، حكماً، أمراً سيئاً، إذا قمنا بتحسينها. ولتكن لكل طائفة خصوصياتها. هناك من يفكر بنظام جديد؟ فليكن، لكن ليس في ظل البندقية ووجود فئة، أو فئات مسلحة في لبنان. يجب ان يكون الخطاب بين اللبنانيين حرّاً، ديموقراطيّاً، مفتوحاً، في تساوٍ، بلا أي ضغوط داخلية أو خارجية لمصلحة أيٍّ من الأطراف. يجب على كل أطرافه أن يحترموا بعضهم البعض، وان تكون الغلبة للحجة لا للسلاح».
فليكن التغيير إذا كان لا بُدّ من تغيير. كل الأنظمة قابلة للتعديل. ألمانيا عدلت نظامها مرات. لكن، بدون فائض قوة لدى أي طرف من الأطراف الداخلية. وبالحوار السياسي العقلاني، لا بالسلاح.
المؤمن يخيف ولا يخاف
نعود الى المطران حنا رحمة لنسأله: ماذا عن الخوف المسيحي من أحداث قد تكون من تصرفات زعران أو طائفيين أو سارقين؟ ماذا يقول لهم؟ يجيب: «أقول أن لا يخافوا. المؤمن يخيف الأشرار والشيطان. من يحضر ربه في حياته يخاف منه الشرير. فليصلِ المسيحيون الى الله وليسبّحوه وليت ما نراه من سرقات واعتداءات على الكنائس يُحفزنا لنُفكّر في حضور الكنيسة في حياتِنا. نحن سنظل ندافع عن إيماننا ووجودنا ومقدساتنا».
قبلاً، كان المطران رحمة حريصاً على تركيب الأجراس في الكنائس البعيدة، النائية، وشبه المهجورة في المنطقة لكن، بعدما زادت الإعتداءات توقف عن ذلك.
من يعتدي ويسرق ويحرق الرموز المسيحية والكنائس؟
راقبوا الأخبار. إقرأوا التقارير عن ما يحصل التي تنتهي دائما بعبارة: التحقيق جار. ثمة حادثة أو اثنتان كُشفتا والفعلة سوريون. لكن، قد يكون من يفعل ذلك من أي جنسية أخرى لذا، لا يضع أحد في ذمته أحداً والمطلوب: تحقيق حقيقي وان لا تبقى الكنائس في البلد مكسر عصا من يريدون العبث بالأمن من باب الطائفية. ألا تتذكرون حادثة كنيسة سيدة النجاة؟ من ذلك الوقت ألّفوا قضية على حساب المسيحيين. ألا ترون رجال الأمن يقفون عند كل تهديد بعمل إرهابي أمام أبواب الكنائس؟ ثمة خوف دائم. في كل حال، بغياب توقيف الفعلة في الحوادث المتكررة تبقى الإستنتاجات كثيرة والخوف كبيراً.