لا تبدو الهجمة التي تتعرّض لها المصارف في هذه الفترة بريئة، خصوصا انها تأتي في ظل مناخ سياسي مضطرب، واجواء اقليمية متشنجة، تجعل المشهد أقرب الى نهج مدروس يستهدف آخر الصروح الاقتصادية التي لا تزال «واقفة على رجليها».
منذ أن طُرحت سلسلة الرتب والرواتب، قبل سنوات، ومنذ أن أدركت الدولة ان ماليتها العامة تتراجع بشكل خطير، دأبت بعض الجهات على البحث عن مصادر تمويل لفرملة نمو العجز.
وبدلا من رسم خطة اقتصادية، كما طالب رئيس الجمهورية مؤخرا، راحت الاقتراحات العشوائية تنهال من كل حدب وصوب. بعضها يصيب وبعضها يخيب، وكأن مالية الدولة هي حقل اختبارات مسموح ان تخضع للتجارب والمزاجية والارتجال.
لكن مخاطر هذه الاندفاعة تجاوزت حدود المنطق، عندما بدأت بعض الجهات تركّز على المصارف دون سواها، للأسباب التالية:
اولا: ان القطاع المصرفي هو «قجة» لأموال اللبنانيين، وعندما نتحدث عن هذا القطاع من غير المسموح ان نتصرّف وكأننا نتعامل مع خصم لا علاقة لنا فيه، لأن أي مسّ يصيب المصارف يشكّل خطرا على أموال كل اللبنانيين.
والكلام هنا يعني الفقير والغني في آن، ويعني أيضا، وربما قبل سواه، من لا يملك حسابا مصرفيا، لأن المصارف شريان حيوي يضخ اموال الرواتب، وأموال القروض السكنية وكل القروض المتنوعة، بالاضافة الى قروض الدولة، وتمويلها. انه الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد والناس، سواء أحبوا المصارف ام لا.
ثانيا: ان التعاطي مع أي قطاع على أساس التمييز، هو في حد ذاته تصرّف مُضر لأنه لا يشجع على الاستثمار، وينافي قواعد العدالة والمساواة امام القوانين. ومن غير المنطقي، أن القطاع الذي يدفع الضرائب، ويصرّح عن أرباحه، يُعاقب بتمييز ضرائبي سلبي، في حين أن من لا يدفع الضرائب، يُكافأ بعدم متابعته لمنع التهرّب الضريبي.
وهنا يُطرح سؤال بديهي: ألا يتساءل المواطن، لماذا بلغت حصة المصارف وحدها، حسب إحصاءات وزارة المالية عن العام 2015، ما يعادل 49% من إجمالي الضرائب على الأرباح التي تجبيها الدولة من عموم الشركات والمؤسسات، في حين أن أرباح المصارف لا تمثّل أكثر من 15% من إجمالي أرباح هذه المؤسسات؟
ألا يعني ذلك بوضوح أن هناك تهرّبأً ضريبياً يقدّر بحوالي 2000 مليار ليرة، (حوالي 1,3 مليار دولار أميركي). الا يُفترض ان تبدأ السلطة المختصة في وضع حد لهذا التسيّب قبل ان تبحث عن كيفية فرض ضرائب جديدة على المؤسسات وعلى المواطنين؟
ثالثا: لا يجوز أن يتم خلق مناخ «عدائي» بين المصرف والمواطن، لأن الطرفين في خندق واحد، تماما كما هي الحال مع السلسلة، حيث يبدو الناس وكأنهم في مواجهة بعضهم البعض، فريقٌ يريد السلسلة، وفريقٌ يرفضها خوفاً من تمويلها من جيبه. هذا المشهد ينطبق على المصارف والمواطن، وكأن بعض الدولة يحاول أن يرفع المتاريس بين الطرفين، في حين ان مصلحة الفريقين في سلة واحدة.
رابعا: ان أرباح المصارف ليست خيالية كما يتوهّم البعض، والمردود على حجم الرأسمال متواضع ومنطقي قياسا بالنسب المعتمدة عالميا.
خامسا: لا مصلحة للبلد بأن يتم إطلاق النار على قطاع ناجح يتعرّض حالياً لهجمات خارجية شرسة ومحاولات ضغوط، بالاضافة الى الصدمات التي يمتصها جراء تداعيات الاضطرابات الاقليمية في دول الجوار.
سادسا: لا يمكن مقاربة الأمن الاقتصادي والمالي في البلد بهذه الطريقة. فاذا كانت «الهجمة» ناتجة عن جهل فتلك مصيبة، واذا كانت نتيجة علم وتخطيط فالمصيبة أعظم، وفي الحالتين من غير الطبيعي أن يماشي الناس هذه الموجة، ويتصرفون كمن يلحسّ المبرد.
أخيرا، هناك مخاوف من ان تكون الهجمة التي تتعرّض لها المصارف شبيهة بما كان يردده «ابن الشعب» عبر الأثير في زمن الحرب : «شو إلي فيك يا بيروت»، في معرض دفاعه عن عدم اعتراضه على هدم العاصمة من أجل ان تنتصر «الثورة».
لكن مشكلتنا في ملف المصارف ان لا وجود لثورة ولا لقضية نكسبها لكي نقول اننا لن نهتم، بل هناك خراب سيصيبنا جميعاً، اذا صمّينا آذاننا عن صوت العقل والمنطق.