الهجوم الإرهابي الدمويّ الذي دُشّنت به بداية العام من ملهى «رينا» في اورطاكوي، بأسطنبول، يأتي في سياق حرب متقطّعة، إنّما متصاعدة، يشنّها تنظيم «الدولة الإسلامية»، على تركيا.
أسوأ ما يمكن أن يحصل عند مقاربة هكذا حدث، وعند النظر في تداعياته، هو اغفال هذا المعطى الأساسي، وهو أن تركيا هي المعتدى عليها في هذا الهجوم، ومثلما أن تعددية جنسيات الضحايا لها دلالتها، فإن الدلالة المركزية تقرأ في اطار الصراع بين تركيا وتنظيم الدولة.
في هذا الصراع، بدأ تنظيم الدولة تحريضه الأيديولوجي على تركيا قبل فترة ملحوظة من بدء عملياته على ارضها، ضد الأكراد في مرحلة أولى، وضد أهداف تركية مدنية في الآونة الأخيرة.
تحريضه الأيديولوجي يشمل تركيا بوجهيها، العلماني، والاسلامي الحركي. طالما ان التحاكم لصناديق الاقتراع، والبرلمانات، ومرجعية الشعب كمصدر للسلطات، وصاحب السيادة، يشترك فيه العلمانيون والاسلاميون فيها، ويعتبر مخالفاً لما يعتبره «داعش» انه الحق.
مفهوم الخلافة عند «داعش» معاد بشكل جذري لكل الماضي العثماني، وينكر تماماً مشروعية الخلافة السلطانية في التاريخ، بل يحمّل هذا الماضي العثماني المسؤولية الأساسية في الابتعاد عن المنهج الصحيح، دينياً وسياسياً.
«داعش» يعتبر ان فتح القسطنطينية، كما تعد به الأحاديث، لم يتم بعد، وأنّه من آخر باسيليوس بيزنطي مروراً بكل سلاطين بني عثمان وصولاً الى تركيا الحديثة من اتاتورك الى اردوغان، لا تزال القسطنطينية لم تفتح بعد. استناداً الى طريقة أخذه بالأحاديث، يعتبر داعش ان فتح القسطنطينية كما فتح روما مهمتان راهنيتان متزامنتان اليوم!
هذا الموقف الأيديولوجي – الرمزي معاد بعمق لتركيا الجمهورية، لكن ايضاً للارث العثماني واكثر من اي شيء آخر، يرتبط أيضاً بخلفية بعثية لكثيرين التحقوا بالتنظيمات الجهادية، ومنها الفرع العراقي من تنظيم القاعدة بعد احتلال العراق، وكانوا قبل ذلك اعضاء في حزب البعث، او ضباط في الجيش العراقي، او طلاب معاهد دينية في ظل النظام البعثي. أكبر مجزرة للتراث حدثت في مناطق سيطرة داعش تمثلات بهدم عدد هائل من آثار الزمن العثماني بدعوى مكافحة الصوفية الشركية، وليس فقط هدم آثار الحضارات القديمة.
في الشمال السوري، لم ترد تركيا تمدد الحالة المحسوبة على «حزب العمال الكردستاني»، لكنها لم ترد ايضاً بقاء تنظيم «الدولة» على حدودها. قضى ذلك بنوع من السياسة المركبة، التي تفاوتت النظرة اليها بحسب مواقع وطموحات كل فريق. بقي أنّ أي دخول لتركيا في منظومة رعائية لتسوية سورية، يجعل من التصادم بينها وبين «داعش» أكثر الحاحاً وبروزاً، كونها المعنية رقم واحد بسحب البساط من تحت التنظيم، وابعاد العرب السنّة في العراق وسوريا عن الثنائية التي يراد لهما حصر اختياراتهم بها، فاما البعثية الصدامية او البعثية الاسدية سابقا، واما الخمينية واما الداعشية على ما يحاول البعض حصر المعروض على ملايين العراقيين والسوريين من العرب السنة الآن. تركيا لها مصلحة في ان لا يكون الخيار محصوراً بهذه الثنائية القاتلة، وان كانت تركيا وحدها لا يمكن ان تنجز ما يتوقف على العراقيين والسوريين انجازه، من استصلاح لكياناتهم الوطنية، بحيث تتأمن في داخلها المساواة والشراكة والتعددية بين جميع المكوّنات التاريخية الثقافية.
لأجل ذلك، ينبغي عدم ربط كل الامور ببعضها. قد يكون للمرء مواقف مختلفة من اداء الحكومة التركية بحسب الموضوعات، اما فيما يتعلق بالاستهدافات الارهابية لـ»داعش» فوق الاراضي التركية، فان المعطى الاساسية ينبغي دائما تظهيره: انها هجمات تشنّ ضد تركيا، وللحؤول دون تحرير النطاق العراقي السوري جدياً من سيطرة داعش في اطار مسارات تسووية كيانية مركبة، دون استباحة هذا النطاق من لدن إيران وحلفائها.