تعترف مراجع ديبلوماسية أوروبّية بأنّ لدى فرنسا ما يكفي من الأسباب لرَدّ ما شهدَته باريس إلى عوامل داخلية تفوق كونها تردّدات ما تشهده سوريا والعراق ومالي من دون أن تُهملَ ذلك. وهي تخشى من مواجهة مسيحية – إسلامية بعد عملية «Charlie Hebdo» والهجمات التي استهدفت المساجد، وهو ما سيقود إلى حوار داخلي وتشَدّد فرنسي في الخارج. فكيف سيكون ذلك؟
توقّفَت المراجع الديبلوماسية الأوروبّية باهتمام بالغ أمام التطوّرات الأمنية المتلاحقة في فرنسا والتي اعتُبِرت على جانب كبير من الخطورة لِمَا شهدته من عنف مسلّح لم تشهده من قبل.
فبعدما اقتحَم مسَلّحان صحيفة «Charlie Hebdo» الساخرة وقتَلا 12 شخصاً، أدّى إطلاق نار في جنوبي العاصمة باريس إلى مقتل ضابط في شرطة بلدية شاتيون، قبل أن تنفجر عبوة ناسفة داخل مطعم للكباب قربَ مسجد في جنوب باريس. وما بين هذه الأحداث المتنقلة، شهدَت مناطق فرنسية عدّة في العاصمة وخارجَها موجة إطلاق نار استهدفَت عدداً من المساجد.
وفي القراءة الديبلوماسية والإستخبارية، طرحت معادلة جديدة مفادُها: هل فقدَت فرنسا أمنَها الذي طالما تغنَّت به؟ وهل هي بوادر موجة عنف طائفية بدأها مسلمون متطرّفون وردَّ عليها مسيحيون فرنسيون من الذين لا يقلّون تطرّفاً بالمثل؟ أم أنّها من نتائج المواجهة المفتوحة التي تخوضها فرنسا في مواجهة الإرهاب من مالي إلى سوريا والعراق؟
واستناداً إلى هذه الوقائع، تعتقد المراجع عينُها أنّ في باريس وضواحيها الفقيرة التي تجمع المهاجرين من مختلف الدوَل الأفريقية والإسلامية ما يكفي من مجموعات يمكن أن تقوم بمثل هذه الأعمال الإجرامية. وقد أثبتت الأعوام الماضية حجمَ العنف الذي يمكن أن تقوم به حتى تجاه رجال الشرطة الفرنسيين والمراكز الرسمية. فكيف بالنسبة إلى صحيفة ساخرة تحدَّت مشاعرها أكثر من مرّة ونجحَت في حرقِ مكاتبها قبل أعوام ولم تتراجع عن توجّهاتها الهزلية؟
وعلى رغم وجود ما يكفي ليقتنع المسؤولون الفرنسيون بأنّ في بلادهم ما يُشجّع على مثل هذه العمليات، فإنّ الخبَراء في شؤون الشرق الأوسط والمكلّفين متابعة «حركة الجهاديين» في العالم من افغانستان والشرق الأوسط الى افريقيا، توقّعوا مثلَ هذه العمليات في فرنسا ودوَل اوروبية أخرى، حتى إنّ بعضهم توصّل الى تحديد الأساليب التي يمكن أن يلجأوا إليها ولم ينجحوا في تداركِها.
وعلى هذه الخلفية كانت الحكومة الفرنسية تدرس عشرات التقارير الإستخبارية التي توقّعت مثل هذه العمليات، ومنها تقرير للخبير الاستراتيجي الفرنسي في شؤون الشرق الأوسط جان ميشل فيرونشيه، الذي حذّر أكثر من مرّة ومنذ فترة طويلة من أنّ تنظيم «داعش» يعدّ لتنفيذ سلسلة من الهجمات الإرهابية تستهدف الدوَل الأوروبية خلال السنة الجارية.
وتوقّعَ الخبير في تقريره الذي اطَّلعَت «الجمهورية» على نسخةٍ منه، أن يطلق التنظيم الإرهابي هذه الاعتداءات في موعد مبكِر من سنة 2015. وهو ما استنتجَه من تصريحات عناصر «داعش» عن تحويل أوروبا ساحةَ حرب بواسطة سلسلةٍ لا تنتهي من الهجمات الصغيرة لا يمكن التنبُّؤ بمن يقوم بها أو تحديد الجهة المستهدفة منها.
ويرى فيرونشيه أنّ الضواحي القريبة من المدن الكبرى في القارة الأوروبية يمكن أن تُمثّل الأهداف المحتملة لـ»داعش»، متوصّلاً إلى تحديد وسائل الجريمة وشكلها، فقال إنّها يمكن أن تحدث بـ»طعن ضبّاط الشرطة من أشخاص يحملون سكاكين، أو سيارات تصطدم بالحشود».
ولاحظ أنّه في حين «تحاول السلطات التقليل من شأن هذه الحوادث باعتبار أنّها فردية، وقد نفّذها جناة غير مستقرّين، إلّا أنّ الواقع يقول إنّ هناك صلة بين هذه الحوادث. هناك آخرون سينظّمون مخطّطاتهم بدقّة ويُسبّبون الكثير من الضرَر».
ويضيف: «أوروبا لا يمكن أن تعتبر نفسَها آمنة، وخصوصاً نظراً إلى حقيقة أنّ فرنسا، جنباً إلى جنب مع المملكة المتحدة وأوستراليا هم أعضاء في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة داعش».
وما كان مفاجئاً أن يتّهمَ فيرونشيه الولايات المتحدة بالوقوف خلف هذه الظاهرة الإرهابية من خلال دور لها في قيام «داعش». وتوصّل في توصيفه لدورها وسياستها الى معادلة تقول: إنّ «الولايات المتحدة مثلُ مَن يضغط على الفرامل وعلى دوّاسة البنزين في وقتٍ واحد أثناء قيادة سيارة سِباق. فمِن ناحية، يجري دعم هذه الحركة، ومن ناحية أخرى يتمّ عرقلتها ومحاربتها، وذلك لأسباب ومصالح جيوسياسية».
وتخلص المصادر إلى الاستنتاج أنّ ما شهدَته فرنسا سيدفع رئيسَها فرنسوا هولاند إلى الدعوة لمزيد من الحوار الداخلي على أبواب الانتخابات التشريعية المقبلة، مخافَة أن تتقدّم القوى الفرنسية بزعامة ماري لوبين التي تقود تياراً عنصرياً ضد «الغرباء» عن تاريخ فرنسا ومعظمهم من الأفارقة والمسلمين. لكنّها ستمضي قدُماً في مواجهتها مع الإرهاب في سوريا والعراق ومالي وغيرها من البقَع الساخنة في العالم.