تتدحرج حرب الإسناد والإشغال, التي اعلنها واشعلها «حزب الله» لمساندة غزة، الى حرب اوسع مدى وأبلغ خسارة، وأقوى دمارا، وأشمل مكانا، وأطول زمانا، وهي وإن كانت تتخذ دورات عنف متقابلة، بين قصف اسرائيلي او عملية عسكرية، يتم الرد عليها بقصف آخر واعمال عسكرية يقوم بها «حزب الله»، فإن جولات العنف لا تتخذ اشكالا دائرية، بحيث يعود مستوى العنف الى نقطة البداية، بعد استكمال ادوار فرقاء الاشتباك، بل يتخذ الامر شكلا لولبيا، بحيث ان كل دورة عنف تأتي لتكون تصعيدا لسابقاتها من الدورات، وتضيف اليها عناصر جديدة متفجرة، كأسلحة مضافة او اهدافا مستحدثة، او امكنة ابعد مدى واكثر خطورة…
على قاعدة هذه الدوامة من التصعيد المتبادل، انتقلت المواجهة من اشتباكات عبر الخط الازرق، وتقاصف باسلحة خفيفة ومتوسطة، لابراج وتجهيزات المراقبة والانذار الاسرائيلية، يقابلها رمايات اسرائيلية على مواقع الحزب، وعناصره المتحركة على واجهة الجبهة، انتقلت المواجهة الى حملة اغتيالات اسرائيلية مركزة، تقوم بها طائرات مسيرة، إستهدفت كوادر وقيادات عسكرية ل»حزب الله» ولحركة «حماس» ولضباط من الحرس الثوري الايراني في لبنان وسوريا، وعلى وقع انطلاق عمليات عسكرية، قامت بها ميليشيات عراقية، استهدفت القواعد العسكرية الاميركية في العراق وسوريا، وقيام الجيش الاميركي بالرد عليها، وتصفية قيادات من الحشد الشعبي العراقي في العاصمة العراقية، قامت اسرائيل بتوسيع نطاق عمليات قصفها لقرى الجنوب اللبناني، وانتقلت، مستعملة سلاح الطيران الحربي الاسرائيلي، الى استهداف المنازل والمراكز الصحية في قرى الجنوب ومدنه، بعد امتناعها عن ذلك منذ حرب تموز 2006.
واذا كان يطيب لاعلاميي «حزب الله» والناطقين بنصرته، ان يتحدثوا عن قواعد اشتباك وتوازن رعب، فقد اتى قصف العمارة المدنية في النبطية، وما تلاها في استهداف معامل الغازية وسهل ايعات في بعلبك، ليضع خاتمة ونهاية لاسطوانة قواعد الاشتباك وتوازن الرعب، وليكشف ان واقع المواجهة، اصبح مفتوحا لكل الخيارات، سواء ما كان متاحا منها لاسرائيل او متاحا لـ«حزب الله»، الذي اضطر الى استعمال بعض من اسلحته الجديدة، كصواريخ الدفاع الجوي سام ٨، وصواريخ بركان الثقيلة وفالق ١ الدقيقة، فالمعركة اليوم لم تعد تتصف بالاسناد والمشاغلة دعما لغزة، ولم تعد مرهونة لتقف وتنتهي، بانتهاء معركة غزة، بهدنة او وقف لاطلاق النار، بل اصبحت معركة شبه مستقلة، لها ديناميتها وآليات تصاعدها، وشروط انهائها وتسوية نزاعاتها، وقد عبر عن هذا الواقع، وزير الحرب الاسرائيلي غالانت، حين قال انه في حال التوصل الى هدنة مع حركة حماس في غزة، فإن «اسرائيل ستتابع اطلاق النار في لبنان»، وهذا يعني ان هدنة وشيكة في غزة قبل شهر رمضان، لن تؤدي الى هدنة في لبنان، وان اسرائيل ستستمر في عمليات الاستفزاز في لبنان، رغم قيام هدنة ستة اسابيع في غزة.
اساس الداء والعلة كانت «فكرة وحدة الساحات»، وهو شعار شعبوي أجوف، اثبتت الاحداث ان لا طاقة لاي طرف، قَبِلَ الانضواءَ تحت رايته، ان يقوم بتنفيذه او تلبية موجباته، فمنذ اليوم الاول لـ«طوفان الاقصى»، وجد كل اطراف الممانعة انفسهم في مأزق، يجاهدون للخروج منه، اول الخارجين من منطق وحدة الساحات كانت ايران، قائدة المحور وعموده الفقري، وحاملة عقيدته وسدنة تشكيلاته وعماد قوته، تنصلت ايران من «طوفان الاقصى»، وتبرأت من التخطيط له او التحضير لعملياته او العلم بموعده،، وافتى السيد حسن نصرالله بان مصلحة المحور بكل اطرافه، ان لا تدخل ايران المواجهة، وان لا تشترك بأية حرب مرجحة، لتبقى آمنة وقاعدة قوية للمحور، لا تستنزف ولا تستهدف، وبأن عبء المواجهة سيكون على بقية اطراف المحور وتشكيلاته، ثم خرج علينا ثانية، يطالب بتفهم ظروف سوريا الاسد واعفائها من اعباء المواجهة، في الوقت الذي تقوم به اسرائيل بعمليات عدوان شبه اسبوعية على الاراضي السورية، وتستهدف فيها الميليشيات الايرانية و«حزب الله» واحدة منها، كما تستمر اسرائيل في احتلال هضبة الجولان السورية، وإقامة المستعمرات على اراضيها منذ ٥٦ سنة، وفيما تعيش سوريا اوضاعا اقتصادية صعبة، لن تزيدها حربا تشارك بها خسارة ازدهار او فقدان تنمية! ولم يفت السيد في حديث لاحق، إعلامنا ان اطراف المقاومة في العراق واليمن، سيبادرون الى الاشتباك مع العدو، نصرة لغزة ايضا، كما يفعل «حزب الله» في لبنان.
لم تصمد مواجهة الميليشيات العراقية، مع القواعد العسكرية الاميركية في العراق وسوريا طويلا، وجاء الرد العسكري الاميركي على عملية البرج 22 في الاردن، الذي سقط فيها ثلاثة جنود اميركيين قتلى، بقتل قادة كتائب «حزب الله» العراقي، ليُخرِجَ بايعاز ايراني، الميليشيات العراقية من معركة نصرة غزة، وفرض انسحاب القوات الاميركية من العراق، وليتحول مطلب الانسحاب الى جدولة تنظم الشراكة الامنية العراقية الاميركية، وهو انجاز تحقق بسعي ايران ورعايتها، لجهود حكومة السوداني واطاره التنسيقي من الاحزاب الشيعية.
وواقع الامر ان اسرائيل ودول الغرب، قد نجحت في تحطيم استراتيجية وحدة الساحات، ولم يبقَ من المحور مشتبكا من اجل غزة، الا اليمن السعيد ولبنان الجريح، وغني عن القول ان هدنة ترفع حصار الماء والدواء والغذاء والمحروقات عن غزة، ستؤدي حتما الى وقف عمليات الحوثيين في باب المندب والبحر الاحمر!!!
وحده لبنان، يفرض عليه خلافا لكل منطق، ان يكون رأس حربة في الصراع العربي الاسرائيلي، وان يقاتل منفردا بديلا عن كل دنيا العرب والمسلمين، فيما تتحدد مساهمات الدول الاسلامية والعربية، بادوار اقل انخراطا من لبنان، من الدعم السياسي والديبلوماسي، او المساعدة المالية والانسانية، او حتى الوساطة بين حركة «حماس» واسرائيل، فيما يبقى لبنان متراسا مشتعلا بالنار ودائم التفجر.
يستذكر كثير من اللبنانيين، في معرض تعدادهم لاسباب انهيار الدولة في لبنان، «اتفاقية القاهرة» التي عقدت سنة ١٩٦٩، بين منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان في عهد الرئيس شارل حلو، وعلى الرغم من ان هذه الاتفاقية التي شرعت العمل الفدائي الفلسطيني انطلاقا من لبنان، وكانت سببا اساسيا لانفلاش الوجود الفلسطيني المسلح بعد اتفاقية « ملكارت» سنة ١٩٧٣، كما كانت سببا لانقسام داخلي عميق، ادى مع غيره من الاسباب، الى الحرب الاهلية ابتداءً من نيسان ١٩٧٥، فان منطق المناصرين لهذه الاتفاقية في زمانها، لم يكن يفترض ان يتحمل لبنان منفردا، عبء الصراع العربي الاسرائيلي بل على العكس تماما.
سنة ١٩٦٩ كانت الجبهات العسكرية في مصر على قناة السويس وفي الاردن حيث كان يرابط الجيش الاردني والجيش العراقي، وفي سوريا حيث كانت جبهة الجولان مشتعلة، وكان على كل هذه الجبهات هناك عمليات فدائية يقوم بها فلسطينيون، كان تصنيف هذه الدول جميعها دول المواجهة، اما تصنيف لبنان فلم يكن دولة مواجهة بل مساندة، وكان ذلك قرارا عربيا بالاجماع، اما اتفاقية القاهرة فكانت تتيح قيام عمليات تسلل، انطلاقا من اقليم العرقوب في جنوب لبنان حصرا، على الحدود السورية اللبنانية، بداعي المساندة فقط.
حتى اتفاقية القاهرة التي يتذكرها اللبنانيون بمرارة، لم تكن تفترض ان يكون لبنان رأس حربة وحيدة، في الصراع مع اسرائيل، وهو ما تفرضه علينا ايران منذ عشرات السنين.