لم يكن من المقبول أن تمرّ زيارة البطريرك صفير إلى الجبل على خير. لم تستطع سلطة عهد الوصاية والنظام الأمني اللبناني – السوري منع مصالحة الجبل فحاولت أن تقضي عليها بانقلاب أمني وبتركيب ملفات قضائية لـ”القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”. ولذلك تبقى ذكرى تلك الحملة الأمنية التي تكررت أمام قصر العدل في 9 آب وشهدت المحكمة العسكرية فصول محاكماتها من أبرز الممارسات السيئة لتلك المرحلة.
على مدى ثلاثة أيام، في 3 و4 و5 آب 2001، احتلت جولة البطريرك صفير على الشوف وجزين وعاليه صدارة الأخبار. فهي لم تكن زيارة راعوية بالمفهوم الديني ولكنها كانت زيارة لها أبعاد دينية وتاريخية وسياسية تضع حدّاً لمرحلة وتؤسس لمرحلة جديدة. أهمية تلك الجولة أنها أتت بعد سلسلة تطورات لم يكن بالإمكان عزلها عنها:
1- أتت بعد انتخابات العام 2000 التي كانت سلطة الوصاية تريدها هزيمة للرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط فإذا بالنتائج تأتي عكسية لتعطي الرجلين فوزاً تاماً في الشوف وعاليه وبيروت. وبدل أن تكون مقدمة لعزل الحريري من رئاسة الحكومة كما حصل منذ انتخاب العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية في العام 1998 أتت هذه الإنتخابات لتفرض عودة الحريري منتصراً إلى السراي الحكومي ولتبقي وليد جنبلاط ركناً من أركان السلطة ولتظهر نوعاً من التنسيق مع البطريرك صفير ولقاء قرنة شهوان.
2- لقد أتت هذه الجولة أيضاً بعد أقل من عام على نداء المطارنة الموارنة في أيلول من العام 2000 من بكركي والدعوة إلى سحب القوات السورية من لبنان على قاعدة أنه بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب فقد آن الأوان لتسحب سوريا قواتها.
3- أتت بعد تشكيل حكومة ما بعد الإنتخابات برئاسة الرئيس رفيق الحريري وبعد ملاقاة النائب وليد جنبلاط لنداء المطارنة بمواقف مؤيدة في مجلس النواب قوبلت بحملة تخوين وتهديدات وبعدما شهد مجلس النواب الجديد سجالات حول دور الأجهزة الأمنية والتنصت على السياسيين وتعديل قانون أصول المحاكمات لجهة تحريره من قبضة مدعي عام التمييز وقتها القاضي عدنان عضوم وفرض التراجع عن هذه التعديلات.
في الوقت المناسب
هذه الجولة سبقت أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية التي غيرت وجه العالم ودفعت القوات الأميركية إلى الشرق الأوسط من أفغانستان إلى العراق وصولاً إلى الحدود السورية. ولذلك ربما لو لم تحصل تلك المصالحة في آب من ذلك العام لكانت أحداث أيلول فرضت تأجيلها.
كان من المفترض أن تحصل تلك الزيارة في العام 1996 عندما وجه جنبلاط الدعوة في المرة الأولى إلى البطريرك صفير ولكن عدة أسباب أدت إلى تأجيلها أهمها أنها كانت ستتزامن مع الإنتخابات النيابية المقررة ذلك العام وأنها كانت ستحصل بينما لم تكن قد تأكدت بعد عودة المهجرين المسيحيين إلى المنطقة بعد ثلاثة أعوام على البدء بتنفيذ خطة العودة وأن الأمير طلال أرسلان كان رافضاً لمسألة أن يزور صفير المختارة من دون أن يمر عليه في خلده وهو كان لا يزال في بداية تأكيد استقلالية دوره السياسي وعلاقته مع النظام السوري بعيداً من المختارة التي اختصرت التمثيل الدرزي خلال مرحلة الحرب حتى العام 1990.
في العام 2001 كانت الظروف أصبحت ناضجة. لقد تأسس، برعاية البطريرك صفير، “لقاء قرنة شهوان” الذي ضم ممثلين عن الأحزاب المسيحية الأساسية وعدداً من الشخصيات المستقلة التي توحي بالثقة وكانت هناك بوادر لقاءات وتنسيق مع الرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط في ما اصطلح على تسميته “الحلف الثلاثي” الذي كان يختصر فيه البطريرك صفير الحضور المسيحي السياسي والشعبي في زمن الحديث عن الإحباط المسيحي وضرورة الخروج منه خصوصاً أن البطريرك صفير كان أنجز قبل ثلاثة أعوام ترتيبات زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان في أيار من العام 1997، التي أعطت أملاً بإمكانية حصول التغيير في لبنان. وكانت فشلت كل محاولات تطويع البطريرك وتدجين الأحزاب المسيحية مما أوحى أن سلطة الوصاية ليست مؤبدة. فما حصل في انتخابات العام 2000 وما تبعه من جولة البطريرك صفير ومصالحة الجبل مع رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” النائب وليد جنبلاط، كان بمثابة الرد على الإنقلاب السياسي الذي نفذته سلطة الوصاية في انتخابات العام 1992 التي حاولت من خلالها إلغاء التمثيل الحقيقي للمسيحيين.
رئيس الحكومة رفيق الحريري في مشاورات مع الوزير بهيج طبارة
الإنقلاب السريع والمتسرّع
بعد تلك الإنتخابات شعرت سلطة الوصاية بقوتها إلى الحد الذي مكنها من السماح بأن يكون رفيق الحريري رئيساً للحكومة على أساس أن يتكفّل بالشق الإقتصادي. ولكن بعد ثمانية أعوام كانت المعادلة مهددة بالإنقلاب. لقد حاولت تلك السلطة أن تؤسس لعهد جديد مع العماد أميل لحود وأن تهادن البطريرك صفير على أساس أن لحود يأتي من المؤسسة العسكرية وأن هناك محاولة لإراحة المسيحيين من خلال بعض التساهل في انتخابات المجالس البلدية ولكن تلك المحاولة انتهت مفاعيلها بسرعة. في الجانب الآخر كان الحريري يسجل اختراقات سياسية من انتخابات 1996 إلى انتخابات 2000.
لم يكن من المؤكد أن الرئيس لحود سيشارك في قداس كنيسة سيدة التلة في دير القمر في اليوم الثاني لزيارة البطريرك صفير. ولكن التدابير الأمنية التي سبقت القداس لجهة إقفال البوابة الرئيسية ومحاولة منع شباب “القوات اللبنانية” من الدخول ومن رفع الصور واليافطات وحمل الأعلام مهدت لقرار لحود المشاركة، مع أنه كان يعرف أن الزيارة لا تخدم عهده ولكنه في المحصلة كان يفضل أن يكون حاضراً حتى لا يكون غيابه تاماً وحتى لو كان غريباً عن المناسبة الإحتفالية وضيفاً ثقيلاً. حضر ومرت المناسبة على خير ذلك أن حضوره لم يقابل بالترحيب ولكنه لم يتعرض للإساءة.
ولكن المحطة الأخيرة للبطريرك في الكحالة في طريق عودته إلى الديمان لم تكن كذلك. على رغم تأخره عن الموعد نحو أربع ساعات من السادسة حتى العاشرة ليلاً بقي المنتظرون في انتظاره وهم يحملون أعلام “القوات والتيار والكتائب والأحرار” وعندما تم ذكر اسم الرئيس لحود صدرت هتافات ضده. ولكن كل ذلك لم يكن مبرراً لما حصل من اعتقالات في 7 آب لأن حجمها كان يعني محاولة انقلاب على مصالحة الجبل.
في اليوم التالي لزيارة البطريرك، في 6 آب، تم استدعاء عدد من ناشطي “القوات اللبنانية” وقد اعتبر هذا الأمر عادياً في ظل ما كانت تعانيه “القوات” منذ قرار حل الحزب واعتقال رئيسه سمير جعجع. ولكن يوم الثلثاء 7 آب كان مختلفاً. لقد صدر الأمر بتنفيذ الإنقلاب على المصالحة عندما داهمت قوى السلطة مكتب “التيار الوطني الحر” في أنطلياس حيث كان يعقد اجتماع لهيئته العامة برئاسة اللواء نديم لطيف وتم اعتقال الحاضرين ومصادرة الموجودات. وبعد وقت قصير تمت مداهمة مكتب “القوات اللبنانية” حيث كان يعقد لقاء لمصلحة الطلاب وتم اعتقال الموجودين أيضاً ومصادرة الموجودات قبل أن تتوسع حملة الإعتقالات لتشمل مسؤولين وعناصر من التيارين اللذين كانا يمثلان الثقل الشعبي السياسي والمسيحي. انطلقت حملة التوقيفات بداية من تهمة الإساءة إلى رئيس الجمهورية والتعرض لدولة شقيقة، أي سوريا، قبل أن يتم تدبير ملفات وقرارات ظنية ذهبت إلى حد التهمة بالتحضير لانقلاب والإتصال بالعدو الإسرائيلي خصوصاً في قضية الدكتور توفيق الهندي الذي تم تسريب شريط فيديو خلال التحقيق معه للجم التحركات الإعتراضية على هذه الحملة ولمنع الآخرين من الكلام. وبعده مع قضية الصحافي حبيب يونس. لقد كان من الأسهل على قوى سلطة عهد الوصاية أن تجعل “القوات” كبش محرقة في هذا الإنقلاب قياساً على ما كان يجري ضدها منذ العام 1991 وذلك تجنباً لصدام مباشر مع جنبلاط أو الحريري خصوصاً بعدما كان تم نزع تمثال كمال جنبلاط من قصر بيت الدين عندما أراد الرئيس لحود أن يستعيد تجربة الإقامة الرئاسية الصيفية في ذلك القصر.
لم تكتف السلطة بما فعلته في 7 آب إذ أنها أرادت أن تقوم بعملية إرهاب أكبر عندما تمت الدعوة إلى التجمع أمام قصر العدل في 9 آب حيث تم التعدي على المعتصمين أمام الكاميرات.
عندما حصلت تلك العملية الإنقلابية كان الرئيس رفيق الحريري في زيارة إلى باكستان فاضطر إلى قطعها والعودة والدعوة الى جلسة سريعة لمجلس الوزراء وسط تصعيد ضد الأجهزة الأمنية تولاه النائب وليد جنبلاط وحملة إعلامية مكثّفة تولتها محطة “أم.تي.في”.
في المقابل انقض فريق الرئيس إميل لحود دفاعاً عن حملة الاعتقالات معتبراً أن هدفها منع استغلال مناخ الحرية والاستقرار للقيام بأعمال شغب واثارة النعرات والحساسيات والتطاول على المقامات ووضع حد لمؤامرة تقسيمية يتولاها العونيون والقوات مع اسرائيل وذلك باجراء اتصالات مع الضباط المسيحيين في الجيش والاجهزة الامنية.
في الثامن من آب وعشية انعقاد مجلس الوزراء، عقد جنبلاط مؤتمراً صحافياً دعا فيه الى إقالة مسؤولي الأجهزة الأمنية محذراً من قيام نظام بوليسي في لبنان، مطالباً بوجوب التشديد على محاسبة المسؤولين عما حصل واقالتهم، لان حملة الإعتقالات تهدف إلى تخريب مصالحة الجبل والانحراف بالنظام الديموقراطي.
ولكن ما كشف طبيعة الصراع في تلك المرحلة وأبعاد تلك العملية أنه في صبيحة السابع من آب كان مجلس النواب، وبتوافق كتل الرئيسين رفيق الحريري ونبيه بري والنائب وليد جنبلاط و “لقاء قرنة شهوان” قد رد ملاحظات الرئيس لحود على قانون اصول المحاكمات الجزائية رافضاً بذلك إطلاق يد النائب العام التمييزي في القضاء الجزائي. وفي التاسع من آب اجتمع مجلس الوزراء، وانقسم إلى فئتين كبيرتين: فريق لحود طالب بتغطية الأجهزة الامنية لقيامها بواجبها في ضرب أخطر مؤامرة يتم اعدادها، وبالتالي يجب عدم تغطية هؤلاء “المنحرفين الخطرين” في “القوات اللبنانية” و “التيار الوطني الحر”، وسط تحذيرات من ان الانقسام في مجلس الوزراء سيجعل هؤلاء اقوى من الدولة، والمطالبة بوجوب اقفال تلفزيون “أم.تي.في”. مع نسبة معلومات إلى مديرية المخابرات تتحدث عن مؤامرة، في غاية الخطورة على لبنان. وقد اعتبر هذا الفريق أنه “علينا ان نغطي الاجهزة الأمنية. “القوات” حزب منحل وعون لا مسوغ قانونياً لوجوده. اجتماعاتهما ممنوعة والتصدي لها لا يحتاج إلى مجلس الوزراء ليغطي التدابير القانونية التي يتخذها القضاء. ان جنبلاط حاول التحريض السياسي من خلال كلمته لدى استقباله البطريرك صفير. نحن مسؤولون، والنائب العام التمييزي ليس مضطراً ان يعود الى السلطة السياسية ليتحرك وأن “القوات” و”العونيين” يعرّضون الدولة التي انتجها الطائف للخطر.
أما فريق الحريري وجنبلاط فقد شن هجوماً مركزاً على أداء الأجهزة الامنية، مؤكداً ان لا صحة للكلام على وجود مؤامرة، رافضاً رفضاً كلياً أي إقفال لـ “أم.تي.في”.
الرئيس الحريري قدم مداخلة مطولة تميزت برفض المس بالـ “ام.تي.في” أو بتغطية الاعتقالات، متحدثاً عن تجاوزات لا تحصى للأجهزة الأمنية.
وكان الرئيس الحريري قد فتح في الخامس من آب 2001 موضوعين على مصراعيهما اولهما التنصت على الهاتف من دون اي قيود، وتغاضي الاجهزة عن عودة زراعة المخدرات.
إلا انه على رغم كل هذه الضجة، تمَّ ضرب المعتصمين أمام قصر العدل في بيروت للمطالبة باخلاء سبيل الموقوفين. كان الضرب وحشياً، اذ اندست عناصر امنية في صفوف المدنيين وراحت تضربهم بعنف غير طبيعي، وعلى مرأى من قوى الأمن الداخلي. نتائج مجلس الوزراء مقرونة بهذا التطور الوحشي دفعت الرئيس رفيق الحريري الى مغادرة لبنان، للتفكير بالاستقالة. وقد شن جنبلاط هجوماً عنيفاً على الأجهزة الأمنية، وقال في 11 آب إن “المخابرات ميليشيا جديدة نشأت في لبنان”.
بين الأمس واليوم
بعد عودته الى لبنان، بناء على الوساطات، وضع الرئيس الحريري يده على الملف متابعاً قضية الموقوفين لإجراء محاكمات سريعة لهم، وكان الخلاف حول الجهة التي ستتولى التحقيق والمحاكمة: هل يجب أن يتولى القضاء العسكري هذه المهمة أم القضاء المدني وحصل خلاف حول هذا الأمر بين مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي نصري لحود ورئيس محكمة التمييز القاضي رالف رياشي. وهذا الخلاف يشبه اليوم ما يحصل على صعيد حادث قبرشمون-البساتين حول الجهة التي يجب أن يحال إليها الملف: القضاء العسكري أم المجلس العدلي أم المحاكم الجزائية العادية، مع الفرق الكبير بين المرحلتين والظروف المحيطة بهما سياسياً وأمنياً وقضائياً وبين الوقائع المكونة لهما. ولوضح حد لهذا الخلاف كانت محاولة إسكات المعارضة من خلال التهم المتعلقة بالإتصال بالعدو الإسرائيلي. ونتيجة ضغط قوى السلطة بقيت الملفات في النهاية في عهدة القضاء العسكري حيث جرت المحاكمات أمامه.
ورفضا لهذه العملية الإنقلابية انعقد في 16 آب 2001، في فندق “كارلتون” مؤتمر الدفاع عن الحريات، حيث دعا كل اعضاء “لقاء قرنة شهوان” و “اللقاء الديموقراطي” الى وجوب محاكمة قادة الأجهزة الامنية.
ولكن سلطة عهد الوصاية كانت أقوى من المعارضة. بعد غزوة 11 ايلول في الولايات المتحدة الأميركية تبدلت الظروف. ضخامة الحدث العالمي ورد الفعل الأميركي الكبير المتوقع جعل ما حصل في 7 و9 آب ثانوياً بحيث استكملت المحاكمات وصدرت الأحكام ونفذت العقوبات ولكن ما كان مرجحاً أن يكتب في تلك المرحلة لم يُمحَ بل وجد فرصته المناسبة في العام 2004 مع القرار 1559 الذي طالب فيه مجلس الأمن بسحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح “حزب الله”. تأجلت المواجهة ولكن كلفتها كانت عالية مع محاولة اغتيال الوزير مروان حماده واغتيال الرئيس رفيق الحريري. مصالحة الجبل تمخضت انتفاضة شاملة في 14 شباط 2005 ثم في 14 آذار.
اليوم لم تتبدل الصورة كثيراً. لا تزال زيارة البطريرك صفير ومصالحة الجبل عنوان المرحلة بعد 18 عاماً على حصولها. من الكحالة ايضاً كانت شرارة أحداث البساتين وقبرشمون. مجلس الوزراء منقسم. الحريري لا يدعو إلى جلسة حكومية. القضاء موضع تجاذب ويتعرض للضغوط. الملفات تخرج إلى الإعلام قبل أن تصل إلى محاضر التحقيق. الفارق الكبير أن أميل لحود لم يعد اليوم في قصر بعبدا. وأنه بات من الصعوبة اليوم فبركة ملفات بشكل فاضح كما حصل في العام 2001.